كتب : د. صفاء عبدالحسين جعيز – العراق
لا يخفى على المختصين بعمل الموانئ الأهمية الكبيرة التي توليها الدول والمنظمات العالمية لتنظيم عمل الموانئ وطريقة ادارتها وتمويلها وتشغيلها والاستفادة من مردوداتها المالية لان الموانئ أصبحت رافدا اقتصاديا مهما وهي تمثل عنق الزجاجة للتبادل التجاري الحر ، وان الموانئ في دول العالم المختلفة أخذت أنماط ادارة مختلفة اعتمادا على رؤية واهداف ترسمها سلطات تلك البلدان ولكن هذه الأنماط تم تحديدها من قبل الدراسة التي أعدها البنك الدولي بما يسمى (Port Reform Toolkit ) حيث حددت أربعة أنماط وهي
Service Port وهو الميناء الذي تدار اغلب أنشطته من قبل القطاع الحكومي كالخدمات البحرية وخدمات تفريغ الحمولات وخزنها وتسليمها لاصحابها ويحتاج هذا النوع من الموانئ إلى تمويل للبنى التحتية والصيانة والتشغيل من قبل الحكومة ويتطلب ان يدار من قبل كوادر كفوءة ومدربة ليحافظ على تنافسية الميناء ومن الأمثلة على هذا النوع (نافاشيفا، كولومبو،دار السلام، مومباسا)
Tool Port في هذا النوع من الموانئ تقوم ادارة الموانئ بتوفير البنى التحتية من ارصفة وأعماق والبنى الفوقية من رافعات ومعدات مناولة لتفريغ حمولات البواخر ويقوم القطاع الخاص بمناولة البضائع في الساحات والمخازن وتستيفها وتسليمها وغيرها من الأنشطة ومن الأمثلة (چيتاكونك في بنغلادش واوتونمس في فرنسا)
Landlord Port في هذا النوع من المواني مشاركة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص حيث يقوم القطاع الحكومي بتوفير البنى التحتية ويقوم القطاع الخاص بتوفير البنى الفوقية وإدامتها وتشغيلها أما بطريقة التأجير للبنى التحتية او المشاركة في الإيرادات ومن الأمثلة ( روتردام، إنتويرب ،نيويورك، سنغافورة )
Fully Privatized Port وهذا النوع من الموانئ تقوم السلطات بتوفير مساحة ارض وواجهة بحرية ويقوم القطاع الخاص بالاستثمار في بناء الأرصفة ومعداتها وجميع البنى التحتية والفوقية وتشغيل الميناء بشكل منفصل طيلة فترة العقد ومن الأمثلة موانئ المملكة المتحدة ونيوزيلاند .
ان الموانئ العراقية انتهجت منهجا واضحا في اختيار الطريقة التي تدار بها الموانئ حيث مزجت بين النوع الثالث والرابع من التصنيفات أعلاه فقامت بابرام عقود تشغيل مشترك لتشغيل الأرصفة الحالية وعقود لبناء ارصفة جديدة لزيادة الطاقة الاستيعابية للموانئ بسبب الزيادة الحاصلة في حجم الحمولات المستوردة وتصدير المنتجات النفطية الذي ازداد بشكل ملحوظ. عند العودة إلى ما قبل عام ٢٠١٠ وأسباب اتخاذ الشركة هذا النهج سنجد ان الموانئ العراقية كانت تعاني كثيرا بسبب قلة الأعماق ومحدودية التخصيصات والطاقة الاستيعابية والروتين القاتل في احالة مشاريع التأهيل والإعمار للأرصفة وصيانة معدات المناولة وشراء معدات جديدة. وبسبب هذه المشاكل والصعوبات لم تستطيع الموانئ مناولة اكثر من ١٤ مليون طن في جميع موانئها ولم تتجاوز ايراداتها ١٧٠ مليار دينار سنويا وبنفس الوقت كانت تطلب موازنات ضخمة من وزارة المالية لإنجاز أعمال التأهيل والتشغيل والصيانة وتزيد هذه التخصيصات عن ٢٥٠ مليار. كما كانت البواخر تنتظر دورها لأسابيع بسبب تأخر تفريغ الحمولات وكانت الدولة تدفع عشرات الملايين من الدولارات كغرامات تأخيرية على البواخر المؤجرة.
عندما بدأت فكرة التشغيل المشترك بالتنفيذ تسارعت الشركات والخطوط الملاحية في التعاقد مع شركة الموانئ لغرض تشغيل الأرصفة ولم يكن في حينها الربح المادي من تشغيل الأرصفة هو المهم لدى الخطوط الملاحية وإنما كان الهدف هو أخذ زمام الأمور وتقديم الخدمات للبواخر التابعة لهذه الخطوط لتسريع تفريغها ورفع مستوى الخدمات للزبائن وتحقيق الأرباح من النقل بالبواخر واجور أوامر التسليم وغيرها وبالفعل بدأ وقت انتظار البواخر يقل تدريجيا وأصبحت حركة الموانئ تزداد بشكل تدريجي وزاد حجم الحمولات المفرغة حتى وصلت عام ٢٠٢٠ اكثر من ٢٩ مليون طن وتحقق ايرادات تزيد عن ٤٨٠ مليار دون الحاجة إلى أية تخصيصات من وزارة المالية لإدارة وتشغيل وصيانة وبناء الأرصفة ما عدا التخصيصات التي خصصت لمشروع ميناء الفاو الكبير.
قامت الموانئ وبالتعاون مع شركات التشغيل المشترك ببناء ١٠ ارصفة جديدة في أم قصر وخور الزبير وتأهيل جميع الأرصفة في أم قصر وخور الزبير وأبو فلوس ورصيفين في المعقل كما قامت بتوفير أنشطة إضافية كالخدمات اللوجستية وخدمات خزن الزيوت الخام والسكر الخام حيث اصبح لدينا معامل لإنتاج السكر المحلي وزيت الطعام المحلي بفضل خدمات الموانئ التي تطورت بالشراكة مع القطاع الخاص. أصبحت معدلات تفريغ الحمولات تصل إلى ارقام قياسية تنافس الموانئ العالمية لجميع أنواع الحمولات كالحنطة والرز وحديد التسليح والحاويات وأصبحت قادرة على تفريغ المعدات الثقيلة تزيد أوزانها عن ٥٠٠ طن ، كما قامت الموانئ بإدخال التكنولوجيا الحديثة من خلال تطبيق أنظمة إلكترونية بالتعاون مع القطاع الخاص لتسهيل الإجراءات ورفع مستوى الخدمات وتوفير اجهزة فحص الحمولات والفحص الأمني ومنظومة كامرات. الخدمات البحرية وخاصة في الموانئ النفطية شملها هذا النهج وأصبحت الموانئ خدمات ارساء وإقلاع متطورة جدا من خلال توفير ساحبات عالية القدرة للعمل في جميع الظروف الجوية. كما أصبحت الموانئ قادرة على فرض سلطة الدولة على المياه الإقليمية والسيطرة على جميع عمليات التحميل الجانبي للناقلات في منطقة الانتظار للحفاظ على السلامة والبيئة البحرية وتحقيق مردودات مالية إضافية. ان الوفرة المالية مكنت الشركة من لعب دور فاعل في دعم قطاعات كثيرة وتوفير منافع اجتماعية لكثير من المؤسسات منها قطاع الصحة والتعليم ودعم الأنشطة الرياضية والفنية والعلمية والإنسانية.
ان فكرة التشغيل المشترك تعتبر فكرة حديثة على كثير من مؤسسات الدولة وبضمنها الموانئ لذلك فان كثير من عقود التشغيل المشترك لم تكن ناضجة بشكل كبير مقارنة بالتطور الذي حصل بالعقود التي أبرمت في السنوات الأخيرة وهذا امر طبيعي كون الفكرة حديثة التطبيق كما أسلفنا ولكن بنفس الوقت فان اغلب العقود حققت منافع كبيرة لشركة الموانئ وللدولة العراقية. ومن هذا المنطلق نلاحظ كثير من الانتقادات التي توجه لشركة الموانئ بسبب التشغيل المشترك فبعض هذه الانتقادات توجه ضد فكرة التشغيل المشترك بشكل كامل وبعضها توجه على تفاصيل تنفيذ الفكرة. أنا شخصيا مع المجموعة الثانية بعد ما أثبتنا ان التشغيل المشترك من حيث المبدأ والفكرة قد حقق منافع كثيرة وان تطوير العقود امر ممكن إذا تمت دراسته بطريقة علمية وموضوعية اخذين بنظر الاعتبار ظروف توقيع هذه العقود.
ان الأساس الذي يبنى عليه أية مشروع هو دراسة الجدوى الاقتصادية والتي تتضمن حجم الاستثمارات التي ينفقها القطاع الخاص والأرباح المتوقعة للطرفين وعلى ضوءها يتم احتساب نسب المشاركة وفي بعض الأحيان يتطلب الأمر منح نسب اعلى للقطاع الخاص لتشجيعه وجذبه خصوصا عندما تكون البيئة الاستثمارية غير مشجعة والأوضاع غير مستقرة في البلد على ان لا تكون هذه الزيادات تحقق ضررا على الدولة وتحقق الغبن الفاحش.
ان الأوضاع الاقتصادية للعراق حاليا تتطلب دراسة تجربة الشركة العامة لموانئ العراق الناجحة بالاعتماد على القطاع الخاص في بناء البنى التحتية والفوقية وتحمل اعباء الكلف التشغيلية وتقديم أفضل الخدمات وهذا الأمر يتطلب قرارات جريئة وشجاعة ومدروسة وعدم التردد من الخوض في هذا المضمار بسبب الانتقادات السلبية.
اتمنى على وزارة التخطيط ولجنة الاقتصاد والاستثمار واللجنة المالية في البرلمان العراقي الموقر عمل ورشة عمل للاطلاع على هذه التجربة والاستفادة من إيجابياتها.