كتب: أمجد حميد-العراق
تنشأ الافكار عند الفرد وهي تحمل نفس طبائع الانسان البيولوجية واحتياجاته بصورة ميتافيزيقية, فكما الجسد يحتاج الى الهواء والغذاء, فهي بحاجة الى ما يغذيها ويحييها لتبقى سكينة عقل الفرد لموته. فأي فكرة, الدينية منها وغير الدينية, تعيش على انفاس الذكر المتواصل والتجديد المطلوب, وتموت بقتل ذكرها وتوقف ملائمتها للواقع الاقوى منها دوماً. ومفتاح أحياء الفكرة الوحيد هو بجعلها جذراً وجزءً لا يتجزأ من كل تفصيله موجودة عند الفرد, فلا يمر حدث, موضوع, او موقف الا وكان لها نصيب بتشكيل هيئتها.
لكن السؤال الاهم هو: ان كان أساس حياة الفكرة ذكرها وتجديدها, فما هي الوسيلة لتحقيق ذلك؟ والحقيقة ان حياتنا اليومية وانتمائنا الفكري بكل اشكاله يجيب مباشرة على هذا التساؤل, اذ من المعروف ان الفكرة لا تلقط انفاسها الا وكان ورائها محرك, مادياً كان او ميتافيزيقاً او الاثنان معاً, يساهم كما القلب لتثبيت قوامها وترسيخه في عقول من يؤمنون بها. وتعدد اشكال المحركات الفكرية يجعل من الاستحالة لدينا حصرها جميعاً, خصوصاً وان كل حقبة تاريخية تستلزم نوعاً ولوناً مختلفاً عن ما سبقه وما سيلحقه من اسلوب وبناء لإحياء هذه الفكرة. بالرغم من ذلك, فان هناك عاملاً خالداً دينامياً لا يتغير مهما تغير الزمان والمكان والطبيعة البشرية, وهو خلق الترابط الالزامي بين الفكرة وكل تفصيله في حياة الفرد والمجتمع, لتكون الفكرة بعدها محوراً لها او جزءً مؤثراً فيها, فكلما زاد الترابط بين الفكرة وحياة الفرد زاد ترسيخها ومتطلبات تجديدها, بل سيساعد لخلق مبررات لهفواتها او تفسيراتِ لميلانها عن مركز وجودها, وستموت في حين غفلة حين لا تحقق ذلك, فان وقف من يحييها ماتت. هذا ما يفسر كيف بقيت افكار لألاف السنين حية وما زالت الى اليوم, او ماتت بعد بقائها لنفس الاسباب المذكورة. فمجرد معرفة المحرك العام للفكرة ستعرف نقطة قوتها وضعفها. ولا يعنى البحث اساساً بمكنونات الفكر وتأسيسه بل بمحركه, وليس كل فكر بل الفكر الشيعي خصوصاً, لذًا فالمحرك العام الذي يحقق ويحمل العامل الاساسي للمذهب الشيعي المراد تناوله هو المنبر. وهو ما سيكون كافياً للجميع, وليس للشيعة فقط, فهم تركيب وتكوين ونجاح كل محرك فكري لإحياء وتجديد كل فكرة بالعالم, اضافة الى فهم الاواصر والثغرات التي تسبب انهيار هذا المحرك, او اي محرك فكري, ايضاً بصورة تدريجية متواصلة حتى تحقق منيتها وتخرج من عقول حامليها.
واعتبار المنبر كمحرك للفكر الشيعي لا يقتصر فيه مقصدنا على المقعد الخشبي العالي فقط, بل يتجاوز هذا المنظور المادي كثيراً ليشمل غرضه التكويني, وهو الخطبة , والذي تطور ليتمحور بالمجمل بالمأتم الحسيني. فتمعن القارئ بما نعنيه ضروري لفهم كلمة منبر, وهل هي ذات وجه واحد ام اوجه متعددة. وبالإمكان استخدام التعريف الذي طرحه الكرباسي في كتابه “معجم خطباء المنبر الحسيني” نقلاً كذلك عن كتاب “مجمع البحرين” اذ قال فيه:
“ولتلازم كلمة المنبر مع كلمة الخطابة في هذه الأيام فلا بد من طرحها في ذيل الحديث عن كلمة الخطابة ولو بإيجاز. فالمنبر: اسم اله على زنة مفعل كمبرد بالكسر, وهو مرقاة الخاطب وانما سمي بالمنبر لارتفاعه وعلوه, يقال نبرت الشيء أنبرته نبراً رفعته.” (معجم خطباء المنبر الحسيني, ص17)
أن هذه الملازمة ملازمة ذاتيه وليست مصطنعة, فرمزية هذا الصرح المتواضع قد جاءت من خلال الابداع الادبي والخطابي الذي بدأ من نبي الاسلام محمد ص وبداية تأسيس قوامه علي بن ابي طالب ع:
“ولعل من اكثر الائمة والخلفاء خطابة هو الامام أمير المؤمنين ع حيث كان عهده عهداً حساساً للغاية, والخطابة كانت الوسيلة شبه الوحيدة لتوعية الناس وارشادهم, ولو قسمت خطاباته حسب الأغراض لكانت أغراضها مختلفة ولكن غلبت عليها السياسة والحماسة والمعرفة والتربية.” (نفس المصدر, ص27)
هذا هو المنبر كمحرك فكري شيعي كأساس موضوعي, والذي تشكل أثر بنية فكرية كانت تهدف لجعله نافذة معرفية وعقائدية لأصحاب الدين نفسه او المذهب نفسه. نضيف الى التعريف الذي اوردناه تعريفنا المبني على ما سيأتي بهذا المقال ويكون دليلاً له, اذ اننا نعرف هنا المنبر الشيعي الحسيني وما هي كينونته الواجب عليه إظهارها للعالم كونها امتداد للاب المؤسس لها وهو علي بن ابي طالب ع: هو نافذة دينية الجوهر, اجتماعية الهدف, شاملة الغاية, أسسها ثلاث وهم العرض والمقارنة والنقد, وحصيلتها النهائية جعل المستمعين دونها حاملين لأرث ثقافي فكري متعدد شامل وليس لأرث ديني مذهبي فقط.
تصوغ مقدمتنا باختصار مفهوم المنبر بوجهه الاسلامي العام نسبياً والوجه الشيعي الخاص دلالياً, لكن لا يكفي ذلك لإبراز تميز المنبر الشيعي عن باقي الطوائف الاسلامية. فقد أشرنا بدايةً ان قدسية المنبر الشيعي مختلف عن باقي المذاهب, وهذا الاختلاف حاصل على الصعيد الموضوعي والبنيوي. ما يمكن ان يختزل هذا الاختلاف بالمفهوم الثالث للمنبر وهو المأتم الحسيني. فعلى الصعيد الموضوعي نرى السياق الكلامي تغلبه التكرارية السردية والفردانية المحورية لشخص او حدث تاريخي, وعلى الصعيد البنيوي نرى الهيكلية التنظيمية, بالرغم من تطور وسائلها, وتراتبها الشكلي المعزز بغاية مازوخية ذاتية وبطرق مختلفة. ولان الخطبة الدينية التي نراها في كل المذاهب الاسلامية لا تهدف دوماً لموضوع تاريخي يراد طرحه او حتى يملك هيكلية تنظيمية للحوار وجعل له اساس فردي كما اشرنا له بتعريفنا, نرى تميز المنبر الشيعي واختلاف الخطبة فيه محقق من خلال الغاية الاساسية من وجوده وهو المأتم الحسيني. ويزيدنا الشيخ محمد شمس الدين في كتابه “ثورة الحسين في الوجدان الشعبي” تأكيداً على كلامنا هذا بالدلالة والغاية التاريخية لتأسيسه:
“ان المجتمعات التي أدى اليها الانفعال العفوي بالمأساة, وتأثير الماتم العرضية والعائلية, هي في رأينا النواة التي بدأ منها المأتم الحسيني-المؤسسة, وتطور خلال التاريخ. فلقد بدأت الماتم الحسينية فور نهاية الثورة وانتشار أخبارها في المجتمع الإسلامي. ولكنها بدأت بشكل عفوي وبسيط.” (ثورة الحسين في الوجدان الشعبي, ص233)
هذه ليست سوى علامة بسيطة على تميز المنبر الشيعي عن باقي الطوائف الاسلامية, وله الكثير من التفاصيل التي سنتناولها لاحقاً, التي لا تتعدى خطبتها تناول اية استهلالية للخطبة, وجعلها محور الخطبة التي يفرع بها الخطيب كل الشؤون الدينية والاجتماعية وحتى السياسية ان امكنه ذلك. على العكس من ذلك في المنبر الشيعي الذي رغم تشاركه نفس المسلك الاستهلالي, الا انه يسبق بجملة هي ما تعين هذه الصبغة المميزة والتجسيد البنيوي والموضوعي: يا ليتنا كنا معكم سادتي فنفوز فوزاً عظيما. فيكون حينها المحور هو الاحداث التاريخية للائمة الاثني عشر وليس الآية المستهل بها.
على هذا الأساس, يتضح مدى تميز المنبر الشيعي وتعقيده, فهو كيان متكامل وماهية تصف نفسها بطرق متعددة. ومفتاح فك تعقيد المنبر يعتمد على معرفة جزئياته وأغراضها, فأما جزئياته التكوينية فهي المقدمة الاستهلالية التي ذكرنا جزئها النهائي, متبوعة بآية قرآنية لبدأ الخطبة, ويليها النعي المونولوجي الذي يخص دوماً فاجعة معينة للنبي او للائمة. اما بعد هذه الاساسات فقد أضيفت على مر العقود بعض الممارسات العقائدية التي اختلطت بالمنبر وشكلت نفسها كجزء من هويته, مثل اللطم والتطبير وغيرها من الممارسات الاضافية التي اثارت جدلاً داخل المؤسسة الشيعية واعلامها, اذ سنذكر الشيء الوافي منه لاحقاً كون ارتباطه الوثيق بتطوير المنبر. لكن البعد التاريخي يظهر لنا كمية المراحل التي مر بها المنبر الحسيني ومدى بساطتها في بداياتها, اذ لم تشكلت بعض العوامل لصنع ضرورية وحاجة المنبر ليكون محرك ديني للمذهب. ويعلق الكرباسي على الرواية المنقولة من الامام الصادق ع في من كانوا يزورون الحسين ع ويقول:
“ويظهر من هذا النص التاريخي أن في هذه الفترة الزمنية كان هناك ثلاث فرق يقيمون المآتم الحسينية: المنشدون, والقصاصون, والنادبون, بينما نشاهد أن الخطيب الحسيني في المراحل اللاحقة تمكن من القيام بالأدوار الثلاثة, فكان يقرأ مقتل الامام الحسين ع, وسيرته وبطعمه ببعض القصص لدعم موضوعه ثم يختمه بإنشاد بعض الأبيات في رثائه ع, ومن هذا المنطلق ربما تمكنا من القول بأن نواة الخطابة التقليدية نشأت في هذه الفترة.” (معجم خطباء المنبر الحسيني, ص44)
تتضح الان معالم المنبر الشيعي وتكوينه الخارجي. انه يحتوي على محورين اساسيين من الناحية البنيوية: الخطيب والخطبة. وعظمة الخطيب تتأتى من عظمة خطبته وثرائها المعرفي من الناحية العلمية, وقوته واثارته لدموع واشجان المستمعين من الناحية الفعلية. ما يعني مجملاً ان الخطيب هو المرسال والواجهة الذي يعرض أسس المذهب ومتعلقاته, القديمة منها والحديثة, بصورة متسلسلة وتربطها بصورة مباشرة للحدث المأساوي المعني لوجود هذه الخطبة.
ولم يكن المنبر ذا صورة واحدة على المدار التاريخي, فكونه محركاً فكرياً يفرض عليه التماس الوقائع الاجتماعية والسياسية لكل حقبة يمر بها. وهذا الالتماس لا يتحقق الا بقبول سياسي واجتماعي لكي يتحقق نفاذ المنبر الى عقول العامة وجمعهم. ونفاذ المنبر الشيعي بشكل عام يحقق توسعاً فكرياً يمكنه من استقطاب افراد اكثر, بل قبائل أكثر كما يؤكده النفيسي في كتابه “دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث” اذ يقول:
“أن القبائل السنية التي نزحت الى العراق من مواطنها في البادية الجنوبية في أثناء الحكم العثماني كانت بعد توطنها, تعتنق المذهب الشيعي, وقد جاء الحيدري في مصنفه على ذكر معظم القبائل المعروفة التي اعتنقت المذهب الشيعي في العراق, ومنهم الخزاعل (منذ 150 سنة) وتميم (منذ 60 سنة) وزبيد (منذ 60 سنة) وكعب (منذ 100 سنة) . . . وقد عزا المؤرخون العراقيون في القرن التاسع عشر (الرابع عشر الهجري) هذه الظاهرة –اعتناق القبائل النازحة المذهب الشيعي –الى نشاط الدعاة والوعاظ الشيعيين الذين كانوا يغادرون الاماكن المقدسة مثل النجف وكربلاء وسامراء للعمل التبشيري بينها.” (دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث, ص 69)
لقد أظهر لنا النفيسي حقيقة مهمة وجوهرية في تاريخ المنبر الشيعي, اذ يؤكد مدى فاعلية المنبر كأداة لتغيير المجتمع وافكاره وانتماءاته, بل حتى آرائه السياسية وشكل السياسة التي تحكمه. وما تحقق ذلك المبتغى لولا الترسيخ الايماني والعقائدي لدى صاحب المنبر فيه, ذلك ما يجعلنا نشك ان رواد المنبر الحاليين, بمختلف اعمارهم وشهرتهم, لا يدركون -سواء بشكل معرفي او نظري – حجم هذا الارث والجهود التي بذلت فيه كي يصل الى هذا الحجم. بل من المؤكد عدم ادراكهم للمحاولات السياسية الدائمة لإخضاع وترويض رواد المنبر في عصرهم ليدعموا مشاريعهم السياسية ويبرروا استبدادهم طوعاً او كرهاً.
تبين لدينا الان أن السيناريو التاريخي للمنبر ما كان ليتحقق دون خطباء حكماء مدركين لحجم المشروع وثقل الهدف الذي يتوجهون للحصول عليه. وكلٌّ حسب واقعه الجغرافي والتاريخي والسياسي, فسطوع شمس الشيخ حسين الكاشفي وعبدالوهاب الطريحي في بدايات القرن السادس عشر قد سبقه احداث سياسية واجتماعية كانت تهدد قوة وثبات المنبر في أنظار العامة, ما دفعهم لمنهجة الخطبة بما يناسب زمنهم ووضعوها في كتب كي تكون مرجعاً لمن يريد ان يكون خطيباً في حقبتهم. فوضع الكاشفي (روضة الشهداء) ووضع الطريحي (المنتخب) لتحقيق النمطية المطلوبة والمناسبة للرواد الجدد للمنبر. على هذا الاساس بنى نفسه المنبر واستطاع الصمود تاريخياً في فترات وتم استغلاله سياسياُ في فترات اخرى.
وبالانتقال الى الحاضر, نرى زيادة أهمية المنبر في العراق تتجلى في الاهتمام السياسي والمجتمعي في القرنين الاخرين, بمختلف نتاجاته الايجابية والسلبية. فلا احد يستطيع نكران دور صالح الحلي ومحمد مهدي البصير ومحمد علي القسام وغيرهم في تشجيع الناس لمواجهة الاستعمار والفساد الذي كان يحل بالعراق. وعلينا ان نوضح ان وقوفنا ضد مزج الخطاب الديني مع السياسي مرهون بالوعي الجمعي الذي نسعى لتحقيقه هذه الفترة, اما الالتماسات الدينية التي كان يصنعها المنبر الشيعي فهي كانت بسبب الفراغات الواسعة الموجودة آنذاك, اذ لم يكن هناك حركات تحريرية حقيقية تدعم ذلك. بالوقت نفسه, فنحن لا يمكن ان ننكر الاثر والنتاج التاريخي لأي محرك حتى, وان امتلك جوانباً سلبية او ان وجوده لا شأن له أساسي بالأمور السياسية والاجتماعية وقولبتها. ونتاج ذلك كله يوفر لنا تقسيم الخطباء المنبريين والمنبر الى قسمين: منبر هادم ومنبر هادف.
باعتبار دراسة المادة الملقية على اسماع العامة وانعكاساتها, بما يتطابق وطبيعة الهدف المنصوص لوجود المنبر, هو الخط الفاصل بين تمثيل منبر ما كهادم وبين تقدير منبر ما كهادف. وتحصيل المنبر الهادم يقسم لنا الخطباء المنبريين الى خطباء الوهم وخطباء العاطفة. فخطيب الوهم يستخدم القدسية والخوارق لسرد احداث وقصص وقدرات بدون دليل وليست منطقية, في سبيل تصدير الوهم للجماهير المتابعين كون الرؤية العقلية لديهم, المتمثلة بالطابع الخارق الماورائي والكرامة اللاهوتية التي عندهم, مما تجعل امكانية هضم كل ما يقوله الخطيب محققة. هذا ما يجعل خطيب الوهم اسوء نوع من انواع المنبر الهادم, كونه يستسقي متانته وثباته في المجتمع العراقي بشكل عام والشيعي بشكل خاص على زيادة الوهم الجماهيري بالأسطورة والخوارق, فيخرج المنبر عن رسالته الاصلية ويكون تعزيزاً لمحبي الاوهام وذريعة لمقتنصين الفرص لانتقاده. ورغم كثرة الاوجه التي تصدّر وتتبنى مثل هذا المنبر الهادم, الا ان اكبر وجه موجود اليوم هو محمد شرارة, فهو المتصدر الحالي في طريقته لطرح المواضيع في الخطبة واستخدام الخوارق بدون ادلة سندية ومنطقية عليها, وكل من تابع محاضراته قد ادرك هذا الشيء, فهو تارة يجعل رسي سفينة نوح على قوله (يا حسين) فاستوت على الجودي, وتارة اخرى يجعل الدافع الاساسي لتجرأ النبي ادم على اكل التفاحة هو لينتج عنه في المستقبل وجود الحسين والواقعة. أقول ان خطيب الوهم اسوء نوع من انواع المنبر لكونه لا يحمل العالمين بل الموهومين فيه, ولا يصدّر الا مجتمعاً موهوماً مثله ولا يتجه الى الاستدلال العقلي والمنطقي, فلو سألنا محمد شرارة لما أختار اية “وكلبهم باسط ذراعيه بالوسيط” لتكون مكتوبة في قبره –كما ادلى بذلك في احد لقاءاته الصحفية –لن نجد حكمة منطقية أو دينية تحتويها. وهذا ما يسميهم الشيخ محمد مهدي شمس الدين بـ((المتطفلين)) على المنبر كما هو وصفه في كتابه “ثورة الحسين في الوجدان الشعبي” في فصل الحاضر وتطلعات المستقبل:
“هذا هو المأتم الحسيني في حاضره. والمأتم الحسيني الان في أفضل حالاته, وحين يقوم به الأكفاء من رجال المنبر المتخصصين في شأنه, وليس الجهلة المتطفلين عليه –كما يحدث في حالات كثيرة –هو مؤسسة من أعظم المؤسسات الاسلامية الثقافية خيراً وبركة بما يقوم به من دور فعال في التوعية الدينية, ونشر الثقافة الاسلامية. وبما يقوم به من الكشف عن ثروتنا الفكرية والحضارية.” (ثورة الحسين في الوجدان الشعبي, ص303)
لا يعتبر خطيب العاطفة خطراً كبيراً كخطيب الوهم, رغم تأثيره الكبير الذي لا يجب الاستهانة به ونسبته التي تغلب الاخير عدداً وصيتاً. يصدًر خطيب العاطفة نفسه باستخدام العاطفة الجماهيرية والجوانب الروحية في المأتم والمواضيع المنبرية المتناولة, فنجد اعتدالاً عند بعضهم مثل الخطيب زمان الحسناوي والمتوفى جاسم الطويرجاوي, ونجد تطرفاً في استخدام واستغلال العاطفة مثل علي الطالقاني ومحمد الصافي وجعفر الابراهيمي وغيرهم. تتشكل خطورة هذا في محاولة أرساء واستغلال الروح العاطفية, سواء الشخصية او الدينية, لتمرير الاراء والممانعات الشخصية وجعلها احكاماً يسري عملها وتفاعلها بين المستمعين, جاعلين الحاضرين مخدرين لا يسعون للتدقيق والشكوك في ماهية الخطيب وحتى ممتلكاته الشخصية ان وجب ذلك. فالخطب المعسولة التي تملئ مواقع التواصل الاجتماعي للطالقاني, سواء من محبيه او من متداولين عاديين, لن تجد عندهم أجابة في ما لو سألتهم عن الثقافة والمعرفة النوعية التي قد اكتسبوها من حبهم ومتابعتهم له. بل ان تصديره لدعم الزواج بنبذ الاختلافات العقائدية وغيرها هي معلومات استهلاكية يحملها الافراد ولا يطبقونها في حياتهم. وكذلك الامر مع الصافي اذ برز صيته في العقد السابق كخطيب عاطفي أحبّه العراقيين لاستهلاكية خطاباته ومحاولاته التقرب الى الفئات الشابة مع تمرير الصيغة الفقهية, والمثير للضحك اننا مضطرون لتناول هذا المثال الا انه يبقى ادلّ دليل على سخف وحجم استغلال العاطفة لصياغة الخطبة المنبرية العاطفية, وهذا المثال هو حين تناول احد شخصيات المانغا اليابانية, او الانمي كما يسمونه العرب او تسميته الانكليزية, وهو ناروتو, مستهزئاً به بالوقت الذي كان لفظه للاسم من الاساس “نوراتو” خاطئاً, ولا اعتقد ان في مسيرة الخطيب لا يعلمونه عدم تناول موضوع لا يختص به او لم يجمع عنه على الاقل معلومات وافية ليكون مسموحاً طرحه في المنبر. واخر مثال نوفره للقارئ العزيز, ليدرك مدى أهمية الانتباه لمثل هكذا خطب عاطفية, هو الحادثة التي هزت الوسط الجماهيري العراقي عندما تم التخطيط لعمل حفلة غنائية للفنان محمد رمضان, فتوجه خطيب المنبر جعفر الابراهيمي ووصفه وصفاً عنصرياً بما معناه: “هذا ما يحصل بالعراق اليوم, حفلة البارحة في بغداد لمحمد رمضان كلفت بما يعادل 3 مليار دولار, وهذه طبعاً حين صرفت لمخنث داعر اسود قذر قبيح يخلع ملابسه امام نسائنا في العراق وفي العاصمة بغداد فهي انحداره وانتكاسه يجب ان لا تمر بسلام.” وبلا شك ان الرأي الشخصي يحترم, باستثناء حمله لألفاظ عنصرية وتهجمية, خصوصاً وان الرد المتوقع من شخص بمثل الصفات التي وصفها الخطيب يجب ان تكون مناسبة لهذه الصفات, على العكس من ذلك رأينا محمد رمضان يفصل رأي الشيخ فيه عن العموم الشيعي والعراقي ايضاً مع حسرته على كلامه: “كيف من بيت الله تعترض على لوني الذي خلقه الله؟، عمومًا أنا مسامح حبًا واحترامًا للشعب العراقي، وكل الاحترام، والتقدير لكل الأديان وكل الطوائف.”
وهذه الحادثة كانت كفيلة لاظهار حجم المنبر العاطفي وتوسع استقطابه للعامة, ومن الملفت للنظر انها توسعت وتجاوزت الخطبة المنبرية, فدخلت في عنان الشعائر الاضافية واصبحت محل جدل في جوازها او حرمتها كاللطم والتطبير وغيره. ونجد سعي الكثير في عدول المنبر مبني على ازالة الترهلات العاطفية منه المتمثلة في هذه الممارسات, واحد ابرز الشخصيات هي محسن الأمين العاملي في كتابه “المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية” اذ يعبر عن هذه الشعائر بالقول:
“كما ان ما يفعله جملة من الناس من جرح انفسهم بالسيوف او اللطم المؤدي الى ايذاء البدن انما هو من تسويلات الشيطان وتزيينه سوء الاعمال فذلك مما يغضب الحسين ع ويبعد عنه لا مما يقرب اليه فهو ع قد قتل في سبيل الاحياء لدين جده ص وهذه الاعمال مما نهى عنها دين جده فكيف يرضى بها وتكون مقربة اليه تعالى والله تعالى لا يطاع من حيث يعصى كما ذكرنا انفاً.” (المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية, ص 7)
أن المحاولات التجديدية للخطبة المنبرية يجب ان تكون محل اهتمام وتقدير من الوسط العام والخاص على حد سواء. خصوصاً وان المنبر الهادم لن يطيل عمر المنبر ولن يقويه على متغيرات الزمان, ويصبح المنبر تدريجياً محركاً غير فعال ولا يواكب القدرات البشرية المستحدثة. والجدير بالذكر ان بعض المحللين والمهتمين قد اقترحوا حلولاً أنسانية تعوض الجانب العاطفي من المنبر او حتى هذه الممارسات. ونجد الشيخ محمد مهدي شمس الدين في “ثورة الحسين في الوجدان الشعبي” يؤكد على ذلك الشيء ويقول:
“واذا كانت افكار السيد محسن الأمين ومن يرى رأيه لم تنجح فيما يتعلق ببعض المظاهر الاستعراضية كضرب الرؤوس بالسيوف, ومواكب اللطم الاستعراضية في الشوارع والساحات العامة, وضرب الأكتاف والظهور بالسلاسل -فان من المؤكد انها نجحت في تكوين نظرة نقدية الى ما كانت عليه حال المأتم الحسيني, وساهمت في تطويره من حيث المحتوى كثيراً, كما أنها شجعت أصحاب الفكر المستقبلي من الشيعة على ان يوجهوا الأنظار الى سلبيات المظاهر الاحتفالية, ويقترحون صيغاً بديلة لها.” (ثورة الحسين في الوجدان الشعبي, ص304)
ويشير شمس الدين الى هذه الاقتراحات في حاشية مهمة لهذا الكلام:
“في محاضرات, ومقابلات في الراديو, والتلفزيون, وأحاديث صحفية اقترحنا استبدال أعمال ضرب الرؤوس بالسيوف (التطبير) في اليوم العاشر من المحرم والذي يجري في مناطق شيعية في العراق وغيره -اقترحنا استبدال هذا العمل بتأسيس بنوك للدم على اسم الحسين يتبرع بها الراغبون في المواساة بدمائهم للمرضى والمصابين والمحتاجين.” (نفس المصدر, ص304)
ومن الرائع ان نرى مبادرة دينية محضة تقترح تعديل هذه الممارسات, خصوصاً وان التوجه العاطفي لدى العامة بازدياد مع قلة المتمسكين بها كل سنة لنفس الأسباب. ما يخلق بدوره املاُ جديداً بتحرير المنبر الهادم من وهمه وعاطفته, لان الوهم يُغلب باستخدام المعرفة ونبذ الخطباء المتطفلين, وان العاطفة تُغلب بازدياد الواقعية المنبرية والجماهيرية واستبدال المثيرات الحسية بموضوعات صحية وعقلية مفيدة للمجتمع ككل, وتحقق بدورها بعد ذلك الهدف الاساسي من المنبر والقضية الحسينية.
بالانتقال الى المنبر الهادف, سيكتمل فيه مقالنا ويبان فيه مقصدنا الاساسي من البحث. اذ لا يمثل المنبر الهادف سوى الذي تطهر من كل ما سبق, جاعلاً منهجيته علمية فكرية هادفة وتليق بالمأتم الحسيني المعمول لأجله أياً كانت المناسبة. ومن الملفت للانتباه ان هناك عاملين جوهريين في خطباء العصر الحديث الذين كان منبرهم هادفاً, وهذان العاملان هما ندرتهم وفردانية اسلوبهم. سيتضح المقصد بعد النظر الى ابرز اسماء القرنين الاخيرين وهم: احمد الوائلي و محمد رضا الشيرازي ومنير الخباز, مع وجود أعلام منبرية اخرى لكن ليسوا بشهرتهم ولا قدراتهم. ان هذه الأسماء تثبت مدى ندرة الخطباء المنبريين المتميزين في العالم, مع اجتهادهم لتوسيع وتحصيل خطباء مؤثرين وفاعلين في الوسط الشيعي, وان عامل ندرتهم يصل لحد تميز اساليبهم لدرجة اختلاف كل واحد عن الاخر, فتحقيق الخطبة الهادفة لا يعني وحدة أسلوب الخطبة بل يعطي سماحية تنوعها, وهذا ما نراه في كل من ذكرناهم اذ يمتاز كل فرد باسلوبه الخاص وحجم فهمه للمكان الملقى فيه الخطبة. فأسلوب احمد الوائلي يمتاز في تناوله المدارس والمذاهب الدينية مع الالتفاتات البسيطة للعلوم الطبيعية احياناً, كون الوسط الذي كان يلقي فيه وسط عربي متعدد مثل سوريا والكويت ولبنان وغيرها من البلدان. بالمقابل نرى اسلوب محمد رضا الشيرازي يميل الى الدفئ النظري بنقاش الموضوعات الاجتماعية المركزية مع الصبغة الدينية التي تتطلبها. ويمتثل الاخير اليوم كوجه منبري جديد ومختلف عن من سبقوه تماماً, فأصبح منير الخباز احد الاوجه الجديدة التي تبنت مشروع تجديد الخطبة المنبرية, اذ ان صدى خطبه في لندن قد اسمع في ارجاء العالم بصورة مذهلة. تتمثل الميزة الاساسية في خطب منير الخباز في فهم موقع الخطبة الملقاة وطبيعة حياة المستمعين من جهة, واستيعابه التام لمدى التطور الفكري والفلسفي ونفاذه في عقول الشباب اليوم من جهة اخرى, فنرى الاتساق في خطبه يتضمن دوماً ذكر مفكرين وفلاسفة غربيين مع الأشارة والاثبات النصي من المملوكات الموروثة بابسط طريقة ممكنة, فيوفر للقارئ, سواء كان ميالاً للفكر الديني او الفكر الفلسفي الغربي, حقيبة معلوماتية متشابكة تربط الفكر الاسلامي مع الفكر الفلسفي, فيحقق بذلك الهدف الاساسي من المنبر والمأتم الحسيني مع تمسك المستمع للحادثة القديمة مع التراث الفكري والفلسفي الحديث.
أننا بالكاد نجزم ان الضرورة التاريخية هي التي جعلت رواد المنبر الشيعي يسعون لخلق خطيب فريد مثل منير الخباز, فالتشابه النسبي بين نسق الخباز والوائلي يشير الى ان الرواد التجديديين رغم ندرتهم فهم لم ينفكوا في مواكبة العصر الذي يحتضنهم. فنجاح الخباز في جعل الفئات الشابة ملتفة حوله هو عدم استخدامه الشخصيات غير الدينية بمنظر سلبي او استغلالهم بطريقة تسقيطية لاعلاء الشأن الديني, على العكس من ذلك فنحن نراه يستشهد بهم ويربط نظرياتهم وارائهم بالفكر الاسلامي بصورة مباشرة غالباً. ويؤكد ذلك رؤيتنا للوائلي وخطبه, اذ برغم اختلاف النسق الخطابي بينه وبين الخباز, الا ان ضروريات العصر استلزمته ان يلم شمل الدين, بملله ونحله ومدارسه, في الخطبة المنبرية ويخلق الترابطات بينهم ليبين نعمة هذا الاختلاف لا نقمته. بالمحصلة سنفهم هؤلاء الخطباء النادرين على انهم كانوا يحملون شعلتين: شعلة تحقيق خطبة هادفة وشعلة تجديده بما يتناسب وطبيعة التطورات الموجوده في عصر الخطيب, وان الاخيرة قد شكلت عبئاً واهتماماً كبيراً عند هذه الشخصيات لدرجة التفكير في تشكيل لجان ومؤسسات دينية تهيئ وتطور الخطبة المنبرية والخطيب لكي يحمل صفات مقاربة على الاقل لما هم حامليه. ومن الملفت للنظر حين نقرأ كمية الصعوبة التي واجهها احمد الوائلي في هذا الجانب وذكرها في كتابه “تجاربي مع المنبر” اذ قال:
“لقد انتهيت الى قناعة بأن محاولة بناء المنبر بشكل جماعي لم تكن ظروفها متوفرة ولا القاعدة مهيئة لها هذا من جانب, ومن جانب اخر أن مشروعاُ كهذا يتطلب أموراً لا يقوم بها فرد عادي بل لابد من هيئة لها امكانات كبيرة وغطاء شرعي وارتباط بجهة تستطيع القيام بذلك هي المرجعية وفق صورة معينة كما سبق أن ذكرته في مكان اخر من هذا الكتاب.” (تجاربي مع المنبر, ص 85)
هذا هو المنبر الشيعي في الختام وهذه ماهيته, انه الصورة الشيعية التي تمرر معرفتها ونظرياتها وارائها من خلاله, محققة تجديد أثرها وثبات ذكرها في اذهان متبعيها ومن يريدون معرفة هذا المذهب وهيكلته. أن تاريخ المنبر يثبت لنا جوهرية قيام وازدهار هذا المذهب من خلال المنبر وافاقه, سواء بانجازاته السياسية او الاجتماعية, بل حتى اخفاقاته السياسية في الحقب التي توجه بها الشعوب الى المدنية كانت بسبب خشيتها لاندثار المذهب وضياعه, الى ان وجد فرصته ليواكب المد المدني ويتعاطاه بصورته العصرية والحديثة. والاهم من ذلك كله هو ان المنبر لم يكن حتماً وجهاً سياسياً تحريضياً, بل استوجب وجود موقف من خلاله كون البيئة المجتمعية في تلك العهود دينية بحتة, لذا نرى الكثير من الخطباء الهادفين, وابرزهم الوائلي كما شرح في كتابه المذكور, يؤكدون بعد المسافة بين السياسة والمنبر, مؤكدين ان الغاية الاساس من المنبر هو الفرد المسلم وكيفية انخراطه في النسيج المجتمعي المتعدد.
ان هذه المحاولات التجديدية ونبذ الممارسات العاطفية في النهاية هي ما تمثل تفاؤلاً في تغير المنبر ورؤيتنا له في المستقبل, لان الخطبة الهادمة لن تحقق شيئاً سوى ابعاد الفرد المستمع عن محيطه بالجهل والعاطفة, لذا لا يجب ان تبقى الافكار التي ذكرناها في هذا البحث, وهي جزء صغير نسبياً من المشروع التوارثي المتبنى من قبل الكرباسي ومحمد شمس الدين والوائلي والخباز وغيرهم, سوى كلمات لا تتعدى القراءة والتداول, بل يجب ان تطلق عنانها وتوسع مداها وتبعد المتطفلين على المحرك الشيعي قدر الامكان. وسواء عشنا هذه اللحظة المرجوة ام لا, فيكفي تأكدنا ان هناك دوماً شخصيات فريدة ومميزة وموهوبة ترتقي بالمنبر الشيعي ليتجاوز حاجزه المذهبي والاسلامي وتعتليه للمرتبة الفكرية والانسانية والمعرفية لكل العالم, ويكفي ان يكون دليلاً لكل حامل فكرة ما ان وجود المحرك الفكري وتطوره وتناسبه مع الواقع المجتمعي هو ما سيحقق بقاءه, وان اي وهم او استغلال عاطفي لنشر الافكار سينشر الفكرة عند كثر لكن بدون ترسيخها, اذ ستسقط الفكرة وحامليها لهشاشتها المعرفية داخل الكل, وهذا هو درس مهم للانسانية كي تبني افكاراً حرة ومؤثرة وعقلانية بدون زرع اي صفات تهديمية من خلالها في المجتمع, سواء كانت الفكرة دينياً او فكراً او علماً وبأي عصر مهما حمل من صفات.