كتب: أمجد حميد-العراق
ارتفع شأن الانسان حين انتقل من الحياة البربرية الى الحياة المنتظمة التدريجية التطور, المصاغةُ وفقاً لما يريده هو لا الشيء الاقوى منه – كالطبيعة مثلاً – ولا الذي يؤمن به – كالإلهة مثلاً – عكس كل دابة في الارض وكائن في البحر وطائر في السماء, بالرغم من مسعاه ان يكون كل ما صاغه متوافق او متوائم نسبياً مع ما يراه اقوى منه او يؤمن به. هكذا نفسر بسهولة كيف استطاع الانسان التمرد على الطبيعة والخضوع لها بنفس الوقت, والذي شيد بشكل فعلي عصوره البدائية في مختلف بقاء الارض بمختلف الانظمة وبأساس جوهري واحد: قانون-حكومة-شعب. وحين نشأت الحضارة الانسانية, لم يكن يشغل اصحاب الثالوث الاخير سوى جعل حكم حضارتهم مرهون بثلاث اساسات جوهرية تنبثق منها ما نسميه الدولة, والتي هي واقعاً نتاج من هذا الثالوث: القانون فوق الحكومة والشعب, الحكومة موجودة لأجل الشعب, والحكومة اقوى من الشعب.
لتلك اللحظة وكل شيء يبدو طبيعياً عند الفرد القديم أيا كان زمانه ومكانه, كون تحول القواعد من اساس مبدأي ثلاثي الاطراف الى مسلمات فكرية ناتجة من هذا الثالوث في عقل وحياة الفرد. لكن الحبكة التاريخية تبدأ حين ينقلب هذا الثالوث بتقدم الثاني (الحكومة) على الاول (القانون) والثالث (الشعب) بأشكال مختلفة من جيل الى جيل بما يتناسب وطبيعة المجتمع ومكوناته الفكرية والايديولوجية. هذا التقدم الذي سيجعل كل حقبة تمر بها البشرية وهي لا تخلو من سفك الدماء والطغيان والتمرد والانتفاضات والثورات, مما حول المبادئ التي اصبحت مسلمات فكرية الى مسلمات غير واقعية, وحري بكل فرد ان يركع لحاكمه دون الاهتمام ان كان القانون فوقه او العكس او حتى انه يطبق بحبوحة من القوانين المنصوصة. هكذا استطاع الانسان, بتمرده على العالم والطبيعة, ان يتمرد ايضاً على ما وضعه ليحد من جبروته, فانطلاقته الابداعية صنعت هذا المجد كله المتوجّه باسم الحضارة, لكنه خلق بالوقت نفسه اول نواة شيطانية ستلازمه كصراع داخل هذا الثالوث الى نهاية العالم, وهذه النواة هي الديكتاتورية.
هذا ما سعى له الانسان وهذه نتيجته, فمفهوم الديكتاتورية مفهوم جدلي غير خاضع لمنظور معين مباشر او صورة تاريخية متسلسلة فنستطيع اكتشافه حين بزوغه ونشأته نظراً لاختلاف تركيباته واشكاله في كل عصر وأمة, وان الكثير من المجتمعات القديمة والحديثة قد تشبعت بوجود ونتاج هذا المفهوم لدرجة عدم تمييزهم لوجوده او سلطته, فمن عصر الملكية, لم تكن اطر القانون والحياة الاجتماعية حرة بما يكفي لنقد الملك ونسله حتى وان كانت دولة متحررة, ووصولاُ الى عصر تطور المجتمعات مع حفاظ بعضها على بعض الاصول القديمة كدولة مصر على سبيل المثال, فهي ما زالت تحتفظ بالإرث الفرعوني مع كل حاكم يحكمهم ولا يخرج من سلطتهم الا ميتاً بالأغلب. والتعريف المختزل, الممتلئ بالدلالة الوافية لهذا المفهوم, والمختصر للشمولية وتعدد الصور التاريخية للديكتاتورية هو: تقدم الحكومة بالمكانة والسلطة على القانون, ويكون الاخير خاضع لها سواء بشكل مباشر او غير مباشر, فيفرض الرأس سلطته على القانون والشعب سواء كان متمثلاً بفرد حاكم او مجموعة افراد تجمعهم هذه الاصرة.
باعتبار الديكتاتورية مفهوماً مبنياً على انتقالية وظيفية, مع او بدون معرفة الغرض, ليس بكافِ لتحصيل الرؤية المرجوة, فيستوجب ذلك فهم الية حصول هذا الانتقال وكيف استمر باستحداث اساليبه الى اليوم. هذه الالية في واقعها ليست مبنية على أسس منطقية بقدر ما هي اساليب استراتيجية يراها الطامح للديكتاتورية سبيلاً للوصول الى هذا العرش العظيم, اساسها هو كيفية تجميد الاس الاول (القانون) ليتم ازاحته والاستيلاء على سلطته. وقد تبرز الكلمات تفاهة لا نظير لها حين نختصر تاريخ الديكتاتورية بتلك العبارات البسيطة, فاختزال الالية الانتقالية بالتجميد وحده خالي من كشف النتائج الظاهرية التي تترتب عليها الحكم الديكتاتوري, لكن التمحيص في التاريخ نفسه يكشف, من تلقاء ذاته, العمق الموجود في ان يكون التجميد هو اساس هذا الانتقال, لأن لا ديكتاتورية تقام الا ويسبقها محاولات حقيقية لتقليل التأثير القانوني المفروض على الحكومة والشعب حتى ينتهي تأثير القوانين ووجودها. ولان كل امة وقوانينها تملك كياناً خاصاً وبعداً خاصاً, نرى الحكم الاستبدادي يتكيف مع ماهية هذه القوانين ليكتشف الثغرات التي يستطيع من خلالها تجميده, لان القوانين, بالرغم من علوها المفروض على الحكومة والشعب, هي عبارة عن موضوعات لامادية بشرية لا تمتلك كياناً الا بالاعتراف بها وتطبيقها, عكس الحكومة والشعب اللذان لا يحتاجان شيئاً يثبت وجودية كيانهما لماديتهما, لذا فحتى حين نقول سلطة القانون فوق الحكومة والشعب, لا يعني ذلك سوى خضوع الجانب المادي الى لائحة لامادية وضعها المادي نفسه لتدير حياته, وبمجرد ان يقرر التخلي عنها فلا شيء يوقفه. يتضح الان الفرق بين قوانين الكون وقوانين الانسان, فالإنسان يخضع لقوانين الطبيعة بغض النظر عن ارادته, وممكن ان يتمرد عليها بإرادته, لكنه لا يستطيع ان ينكر قوانين الطبيعة ووجودها سواء بإرادته او افعاله, على عكس القوانين البشرية التي يكون خضوعه وتمرده ونكرانه كلها من ضمن قدرته وارادته, ما يحقق الاساس للمنطلق الحقيقي لصنع اي ديكتاتورية بالعالم, ما يحقق بدوره خاصية التجميد التي تصنع الالية الانتقالية الوظيفية ونخلق بها الديكتاتورية.
أصبح من المعلوم سبب ظهور الديكتاتورية بشكل متزامن مع بداية الحضارة الانسانية, وكيف لازمت انشائها وتطورها وامتزجت حتى مع اثارها وعلاماتها التي خلدت ذكراها الى اليوم, فها هي حضارة مصر التي لا نعرفها الا بالفراعنة الذي اساس وجودهم من الاساس, وها هم الاغريق يفرشون تاريخ حكامهم بالأساطير وتشبيههم بالإلهة اسوة بالحضارات الشرقية المتمثلة بالبابلية والاشورية والسندية وغيرها, وليسوا كلهم سوى مثال عن مئات الامثلة المميزة التي لا نحتاج حتى ذكرها لشهرتها. ومن الضروري فهم المبادئ الاساسية التي يعتمد عليها الحكم الديكتاتوري لفهم تكوينه, فكيفية وجود الديكتاتورية لن يكفي لفهمها ولا لكيفية التخلص منها. ونتيجة الملاحظات العامة للممارسات السياسية, ستظهر العلامات الاساسية لهذه المبادئ بشكل ظاهري جلي, والمبنية بالأساس على اسقاط وجودية القانون وهيمنته بمختلف الاشكال وفي كل العصور: استخدام الاساليب القمعية للحكم, السيطرة المطلقة على الشعب وجوانب حياته, وادامة الحكم اطول فترة ممكنة.
هذه هي المبادئ الشاملة لكل عصر بشري صنع فيه وجوده, تشترك في هدفها وتختلف في شكل توظيفاتها ومساهمتها لتحقيق الحكم الديكتاتوري. وكل مبدأ له اسلوبه واستخداماته المعينة التي تعبر عن متانة الارتباط داخل الثالوث الذي عرفناه. واحد الادلة على ما سبق هو اننا نستطيع معرفة حجم الديكتاتورية لدولة ما من خلال حجم الممارسات القمعية التي تم ممارستها عليه, وهذا ما يربط الشعب فكرياً وسيكولوجياً به, اذ يترتب عليه ايديولوجية مؤكدة تضمن خضوع الشعب, برغبة كانت او برهبة, توارثياً حتى ينزرع كطابع عام عند الكبير والصغير والرجل والمرأة على حد سواء. وهذه بذاتها تمتثل في اشارة جورج اورويل التي أكدها في روايته 1984, فأساس هذه الرواية هي تبيان اهمية استخدام الاساليب القمعية لجعل الشعب مسيطراً عليه, وكيف يتمثل تجميد القوانين وصياغتها لتناسب الحاكم كأثر حي وحر لتحقيق الحكم الديكتاتوري:
“((لماذا لا نذهب للتفرج على عملية الشنق)) صاح الولد بصوت زاعق وغاضب, وتغنت الصغيرة وهي ترقص مرحاً ((نريد مشاهدة الشنق! نريد مشاهدة الشنق!))” (1984, ص 31)
هكذا تقوم الحكومات الديكتاتورية بتأصيل اساليبها القمعية في ادمغة شعبها ولتكون مقنعة لهم حتى بعد زوال حكمها, فكم من العراقيين اليوم من يتحسرون على حكم صدام حسين برغم ان عائلته لا تخلو من شخص قد قتله الاخير بلا ذنب, ذلك ما خلق على الصعيد السياسي ايماناً راسخاً بان الحاكم حاكم بسلطته على بشعبه وبغض النظر حتى عن انجازاته. وهذا له نقاش خاص لاحقاً.
ينتج من المبدأ الاول بعد تحقيقه مبدئا السيطرة المطلقة على الشعب وادامة الحكم, فهما ليسا سوى نتيجتا الاساليب القمعية التي يتم تطبيقها لإرهاب الشعب, اذ ان جوهر هذه الغايات نابع من الطموح البشري الفردي على الحكم والطمع الذي يزرعه الشعور الاستبدادي, فيودي بأصحابه الى فعل اي شيء وكل شيء لأجل بقائهم في السلطة. اما ان سألنا عن كفاية استخدام الاساليب القمعية لتحقيق تلكما المبدأين فالإجابة بالتأكيد لا, لان تحقيق السيطرة والديمومة تحتاج الى تنظيم داخلي ذا مجهود تنسيقي يستطيع امتصاص ردود فعل الشعب الجماعية وليست الفردية وتفادي حصولها قدر المستطاع, لان تأثير الاساليب القمعية يكون مباشراً ويقل تأثيره كلما زادت الفئة المستهدفة لقعمها. ووجود اليات معينة يتم استخدامها لتحقيق تلكما المبدأين اهم العوامل المحورية في هذه المبادئ, وهذه الاليات تتمثل بأجهزة الدولة العسكرية (الجيش والشرطة والاستخبارات) والاقتصادية (الجوانب المالية والانتاجية بكل فروعها) والاجتماعية (الاتجاهات الدينية و الفكرية والاعلامية للمجتمع ومؤسساتها). وتبلغ اهمية وجود سيطرة وادارة مطلقة لهذه الاليات لتكون اساس تحقيق هوية اي نظام ديكتاتوري لتحقيق سيطرته الكاملة على شعبه, والتي يطمح من خلالها على ادامة هذا الحكم الى اجلِ غير مسمى.
ومن المفارقة ان نكتشف بان هذه الهوية الديكتاتورية مبنية بالأغلب على الذائقة الشعبية وتركيبته الحياتية خصوصاً في الدول الديمقراطية او التي تحمل محطات ديمقراطية في حياتها, بل ان تقبل الخسائر الكارثية التي تحصل نتيجة حكم ديكتاتوري ما تتحقق بسهولة حين تكون متوافقة مع الاتجاهات الاجتماعية للسلطة الحاكمة. هذه هي النتائج المترتبة على من هم متراضين فكرياً وايديولوجياً مع الافكار والكوارث التي يحدثها الديكتاتوري, فهي ما ستشكل دائماً الذريعة المقبولة حين يرتكب الديكتاتوري اي كارثة بحق الشعب, وقد شهدت ستينات القرن الماضي اهم حدثين يثبتان امكانية غفران الشعب للديكتاتوري حين تكون الاصرة التي تجمعهما هو الاتجاه الفكري بشقيه الديني واللاديني, وهذان الحدثان هما المجاعة الصينية التي احدثها ماو تسي تونغ سنة 1961 والخسارة الفادحة التي سببها جمال عبدالناصر سنة 1967. فالمجاعة الصينية التي سببتها السياسة الماوية الفاشلة وتسببت بموت ما يقارب 50 مليون انسان لم يتم فيها اي ردة فعل شعبية غاضبة, والسبب انها كانت متسترة خلف منهجية سياسية اقترحها ماو وطبقها تحت مسمى “القفزة الكبرى للأمام” اذ تغلب الطابع الايديولوجي فيها على الطابع العلمي والاقتصادي المدروس عند الشعب, فامن به الشعب وطبق السياسة وتحمل نتائجها لدرجة عدم وجود اي تبرير معلن من ماو سواء مباشر او غير مباشر بخصوص هذه المجاعة. نفس الشيء مع مصر في الحرب التي شنتها بقيادة جمال عبدالناصر وحدثت الهزيمة فيها بسبب الادارة العسكرية الفاشلة, وكل الاصابع كان تتوجه على عبدالناصر ولم يكن هناك حل سوى استخدام عاطفة الشعب والاصرة الفكرية التي تجمعه مع الحاكم الديكتاتوري الذي يحكمه, فاعلن قرار التنحي عن الحكم ليستغل العاطفة الجماهيرية التي حوله, لتستجيب العاطفة الجماهيرية لذلك وتخرج مناديه له بالبقاء فيقول عبدالناصر بعدها:
“إنني مقتنع بالأسباب التي بنيت عليها قراري (التنحي)، وفى نفس الوقت فإن صوت جماهير شعبنا بالنسبة لي أمر لا يرد. ولذلك فقد استقر رأيي على أن أبقى في مكاني وفي الموضع الذي يريد الشعب مني أن أبقى فيه، حتى تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعا من أن نزيل آثار العدوان.” (خطاب عبدالناصر بعد قرار التنحي)
وهنا تتبين المفارقة المبنية على العاطفة المجتمعية, والتي سنتناولها لاحقاً بإسهاب لحساسيتها وتأثيراتها لصنع اي ديكتاتور بالعالم, فهذه الاحداث نتيجة لتطابق توجهات الديكتاتور مع توجهات الشعب, لكن حين ندرك ان لا شعب بالكامل يتفق على منهجية فكرية معينة, فسينتج بديهياً افكار واراء تعارض الفكرة وحاكمها بصورة مؤكدة. ومما لا شك فيه ان المعترضين سيكونون مؤثرين بشكل او باخر على السياسة الحاكمة ولن ينفع استخدام الاسلوب الفكري معهم, فيضطر لاستخدام الاساليب القمعية والاليات الحكومية التي يسيطر عليها لمنع وحد انتشار الرأي المعارض. ويظهر ذلك بشكل جلي في حملة الابادة التي قادها ماو تحت مسمى “الحملة الثقافية” والتي اباد فيها كل من عارض وخالف التوجه الشيوعي في الصين آنذاك, وكالعادة فهو مضطر ان يبرر ذلك لجمهوره حتى وان لم يحتج الجمهور ذلك او كان التبرير لا يملك اي ذرة من العقلانية والمنطقية, واختصر ماو هذه الحملة واهدافها حين قال مقولته الشهيرة: “دعهم يموتون، لأنه إذا ماتوا، فإن ذلك يعني أنهم ليسوا جديرين بالعيش.” وهذا ليس بغريب او غير متوقع من حاكم ديكتاتوري خصوصاً حين يكون اساسه ايديولوجياً وهو المبرر لاباداته. على الجانب الاخر نرى تعامل عبدالناصر مع معارضيه يستهدف القادة الاساسيين للفكر المعارض مع الاستعانة بالجانب التبريري الايديولوجي كالعادة لامتصاص رد الفعل الايديولوجي, واحد الادلة التاريخية هو اعدامه لسيد قطب كأحد المعارضين والقادة للفكر الاسلامي السياسي آنذاك, وغير ذلك من الامثلة الكثيرة التي لا يسع المقال لحصرها.
هذه الممارسات التي تمهد فعلياً لتحقيق المبدأ الثالث والاخير وهو إدامة الحكم الديكتاتوري على شعب ما اطول فترة ممكنة, فالأساليب القمعية والاليات الحكومية هي التي تحدد طريقة التعامل مع ردود افعال الشعب عند اي حدث او فعل يبدر من الديكتاتوري. لكن شكل ادامة السلطة تختلف في مداها حسب طموح الديكتاتوري نفسه وهوسه الفكري ايضاً, فمنه من يرى ادامة حكمه كافياً بان يكون حتى انتهاء حياته, ومنهم من يرى ادامة ديكتاتوريته في بقائها بعد موته أيا كانت الطريقة, فلم يكن طموح نيرون ابن كلاوديوس ان يتخلد اسمه كحاكم ديكتاتور – بالرغم من تحقق ذلك بدون ان يتكبد عناء التفكير به –لكنه كان مهووساً بالحكم والسلطة لدرجة ان اقدامه على الانتحار انبثق من فقدانه قدرة تسلطه على من سعى اليه. ولان المبدأين السابقين لا يكفيان لتحقيق هذه الادامة الا فترة محدودة لا تتجاوز حياة الديكتاتوري نفسه, سيحتاج الديكتاتوري الى شيء اكثر من السلطة والقمع كي يمتد حكمه بعده. ونستطيع ببساطة ان نحدد العامل الاساسي الذي يحقق الادامة الديكتاتورية, اذ يتمثل أساساً بالأثار التي يسعى لأنشائها وعملها الديكتاتور لإدامة هذه السلطة وابراز هيمنته وهيبته امام شعبه او الشعوب الاخرى في حاضره ومستقبله, فحتى لو كان شكل ادامة الحكم توارثي او ترسيخ فكري انتقالي او حتى استبدال ديكتاتورية مكان اخرى, لن يتمكن الحاكم الديكتاتوري من تحقيق ذلك سوى من خلال صنع اثر مادي يبقي ديمومته وهيبته ولو بعد حين. تبرز هذه النظرية كإشارة محققة حين نرى نيرون –وبصورة غير مدروسة –حين بنى قصره الذهبي الموجود الى اليوم, وهذا ما يختصر فكرة الادامة الديكتاتورية باختلاف اشكالها, فالديكتاتوري يستطيع ان يديم وجوده في حاضره او بعد موته بهذه الطريقة وكل حسب طموحه, فمنهم من يريد ان يذكره التاريخ بالعظمة وينسى طغيانه كالفراعنة والاهرامات, ومنهم من يريد ان يكون اثره باقياَ حتى وان كان على شكل طاغية كما نرى نسل الاسد في سوريا حين انتقل من حافظ الاسد الى بشار الاسد بمفارقة عجيبة, اذ ان الحزب الذي ينتميان له مبادئه اشتراكية ديمقراطية ولم نرى سوى حكم توارثي اشبه بالملكية.
يظهر لنا شرح المبادئ الثلاثة مدى تعقيد التعامل والتفكير بالحكم الديكتاتوري, ويرشدنا الحديث على حقيقة الاختلافات التاريخية التي خلقتها التغيرات التكنولوجية والعسكرية التي ازدهرت في القرون الاخيرة, فبالرغم ان هذه المبادئ شاملة كل الازمان الا ان تغيرات البيئة المجتمعية والتحديثات التي طرأت عليها اعادت تشكيل هيأتها لتكون مناسبة وطبيعة التغيرات الحديثة, وهو ما اسفر بدوره بخلق منهجيات جديدة للديكتاتورية حسب المعطيات الزمنية التي تمليها عليها. لذا يعطي التقسيم التاريخي للديكتاتورية انطباعاً وادراكاً اسهل لمجرياتها بصورة افضل, فينتج من هذا التقسيم ثلاث انواع رئيسية للديكتاتورية: الديكتاتورية الكلاسيكية, الديكتاتورية الانتقالية, والديكتاتورية الحديثة.
تبرز ميزتان اساسيتان من الديكتاتورية الكلاسيكية ونرى من خلالها تميزها وسبب استمرارها طول فترة تاريخ الانسان, وهذه الميزتان هي العلنية الاستبدادية حتى في ظل وجود سياسات ديمقراطية, والفردانية الادارية المبنية على فردانية السلطة ووجودها من الاساس. وبلا شك ان الديكتاتورية الكلاسيكية لا تحتاج لشرح مستفيض كونها معروفة مناحيها واطوارها وتفاصيلها عند الجميع, اقلها من اطلع على مقدمتنا الوافية والمطابقة لكل ما تحمله هذه الحقبة التاريخية الممتدة للقرن العشرين, الا اننا نحتاج الى تحديد مداها ومتى توقفت وهل توقفت بالكامل ام لا. وباختصار فان اخر شكل ديكتاتوري كلاسيكي قد لاحظناه قد كان في نهاية الحرب العالمية وانتصار البلاشفة بقيادة لينين بالإطاحة بالنظم القيصري الروسي, , اذ تمثل كآخر شكل ديكتاتوري يفرض وجوده بنفسه بدون اي شكليات او مسرحيات ديمقراطية, وايضاً قد حقق الميزتان المذكورتان وكان اخر من حققها, الى ان استهلكت الحيل الديكتاتورية القديمة وبشر التاريخ ببزوغ عصر جديد يبدأه بعصر الديكتاتورية الانتقالية.
انبثق العصر الانتقالي تدريجياً من خلال المتطلبات المجتمعية الحديثة والبعيدة عن العصور المتزمتة, فإنسان القرن العشرين قد حمل وتيرة تطورية تكنولوجية ومعرفية لم يسبق لها مثيل في التاريخ, ما ساهم في تجديد النضرة الفردية والجماهيرية بخصوص الحياة والعيش تجاوزت حدود رغيف الخبز. هذا هو الدافع الاصلي الذي حفز عدم تقبل الميزات الاصلية لكل دولة ديكتاتورية, فالعلنية الاستبدادية –سواء بظل وجود سياسات ديمقراطية ام لا – كانت مقبولة بالكامل عند الجمهور كون الحاكم بالنسبة لهم اله او اقرب ان يكون كذلك, والا لما استطاع ان يجعل انساناً حياً او ميتاَ بإرادته! لذا فقد خفت بصيص هذا الجانب مع صعود الاتجاهات اللادينية والتي اصبحت لا ترى من الديكتاتور الا وجهاً ذا سلطة وسلاح لا غير, ولم تعد تجدي السياسات الفردانية الخالية من الاوجه الديمقراطية, كون توسع المتطلبات الجماهيرية مثل التعليم والصحة والنقل والسفر جعلت من تقييد كل اوامر السلطة مبنية على رجل واحد, والا لما رغب انسان ان يكون ديكتاتور لأنه اما سيقضي عمره بالقرارات او سينتهي حكمه حين لا يوجد قرار ويثور شعبه عليه. هذه الصورة توضح لنا الحاجة التي اقتضت وجود تغييرات شكلية بالحكم الديكتاتوري ليتناسب وطبيعة التغيرات الجديدة.
من السهل تحديد نقطة انطلاق عصر الديكتاتورية الانتقالية بالرغم من ازدياد صعوبة تمييزها ومعرفتها كديكتاتورية, لان هذا العصر قد بدأ بالامتزاج مع الخطابات النارية المنادية بحقوق الجماهير واشكال التعبير الخاصة بهم وغيرها من التي شكلت عبئاً اولياً على اي حاكم يريد الانفراد بسلطته, ما ساهم في خلق استراتيجية جديدة تسهل من عملية تكوين الديكتاتور بطريقة غير مرئية وواضحة للعلن. نرى ذلك جلياً في قوى القطبين العالمي المتمثل باليمين الليبرالي واليسار الشيوعي, فقد برزت الديكتاتورية الانتقالية بإظهار الجوانب الديكتاتورية ووجودها بشكل متستر وراء اوجه ديمقراطية شكلية, بل تعدى الامر ذلك اذ بدأت الفردانية الديكتاتورية بالتلاشي واصبحت تتمثل بكيان سياسي متكامل تستطيع استبدال الادوار الظاهرية متى شاءت وكيفما شاءت. هذا التحديث الجديد قد بدأت ملامحه تبان بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى, فمن جانب الشرق قد ظهر لنا الحزب الشيوعي كمنظمة حزبية متكاملة ذات اهداف انسانية بحتة, الا ان هذه المناهج الديمقراطية لم تمنع من صعود شخصيات ديكتاتورية عرفت كيف تتجاوز هذه الشكليات الانتخابية وابرزهم ستالين وخروتشوف, اما الغرب فقد تميز في تهميش الفردانية السلطوية وجعل الكيان الديكتاتوري متمثل بسياسة متكاملة ليسهل التعامل مع الاعتراضات الشعبية فيغيروا وجه الحاكم ويضعون بدله مع الاحتفاظ بنفس المنهجية الباطنية, واوضح مثال على ذلك هو السياسة الامريكية وتعاملها التاريخي مع الامريكيين الأفارقة, فقد برز الكثير من الشخصيات الذين ساهموا في قضية التمييز العنصري بدءاً من وودرو ويلسون وحتى حقبة دونالد ترامب, فسياسات ويلسون قد انتجت جماعة كلوكوس كلان الذين ساهموا في مذبحة تلسا سنة 1921 والتي شابهتها سياسات ترامب التي خلقت المظاهرات الامريكية للسود بعد مقتل مواطن امريكي اسمه جورج فلويد سنة 2020.
هكذا نفهم التركيبة الانتقالية التي خلقت اللون الجديد من الديكتاتورية في القرن السابق, فالديكتاتوريات الحزبية ساهمت في تسهيل مهمة الاستعمار ايضاً اذ تستطيع السيطرة على بلد ما من خلال خلق ديكتاتورية ذات غطاء ديمقراطي تتستر فيها عن كل الجرائم المنفذة وتبرر من خلالها جميع الممارسات الوحشية. وانعكس هذا الشيء في الشرق الاوسط بصورة مباشرة اذ تمثلت بالأحزاب التي حكمت والشخصيات التي ظهرت معها باسلوبها الديكتاتوري الجديد, فبرز لدينا جمال عبدالناصر وانور السادات في مصر وحافظ الاسد في سوريا وصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا وروح الله الخميني في ايران, وكلهم يشتركون في ممارساتهم ما يمثله بالضبط طبيعة الديكتاتورية الانتقالية في زمنهم, فبالرغم من فردانية الكل بالسلطة ومحاولاتهم الدائمة لتسليط كل الاضواء عليهم, الا انهم كانوا ملتزمين بكيان حزبي يحدد حتى افعالهم او على الاقل يتم تبريرها من خلال افكار المؤسسة الديمقراطية التي ينتمون لديها, اذ نجد ذلك واضحاً حتى في كتابات ذلك العصر التي واجهت هذه الانظمة, فعنوان كتاب كنعان مكية “جمهورية الخوف عراق صدام” يختصر حقبة الديكتاتورية الانتقالية من دون حتى محتويات الكتاب, فالعراق كان حقاً دولة جمهوريةً الا انها جمهورية مبنية على الخوف, وبرغم ان هذه جمهورية مفروضة فيها الانتخابات الا انها محكومة مملوكة لشخص وهو صدام حسين, لذلك فان اجراء الانتخابات هو الشكل الجديد الذي يفرضه المعطيات الحديثة لكنها لم تغير شيء اذ فاز فيها صدام حسين ب100% من مجموع الاصوات كما فاز غيره من بني عصره في هذه الديكتاتوريات. وبالرغم من مساعي مكية لاستثنائية المنظومة الديكتاتورية في العراق, الا ان هذا التميز هو تميز فردي مبني على اشكال الديكتاتورية الموجودة وطبيعة الشعب التي تحكمه:
“توجد هنا مشكلتان في الحقيقة. ألا وهما مشكلة الدولة في مواجهة المجتمع المدني, ونقصد بالمجتمع المدني هنا, كل المواطنين باستثناء الذين في داخل جهاز الدولة, والمشكلة الثانية هي مشكلة الشرعية داخل نظام دولة منخور من افتراضية العنف. ومن الواضح في دولة صغيرة للغاية, مثل لبنان, أو في مجتمعات كبيرة للكيان نسبياً, مثل مصر وايران, أن المشكلة الاولى تفوق المشكلة الثانية كالتأثير المكون للكيان السياسي. ولكن في حالة دولة متوسطة الحجم كالعراق, يحكمها حزب مصمم بشدة على ((التدولة), فان الاولويات يمكن ان تنعكس الى المدى الذي تبلع فيه الدولة المجتمع المدني.” (جمهورية الخوف عراق صدام, ص93)
هكذا نفهم التركيبة الانتقالية التي ساهمت بشكل عملاق على ما نراه اليوم من النظم الديكتاتورية, فحتى الثورة الخمينية وتحقيقاتها لم تُخلق بدون الخطابات الاجتماعية والتعاونيات المشتركة مع حزب توده الشيوعي, الى حين تحقق السلطة وتصفية المتعاونين بعدها.
ينقلنا ذلك بصورة مباشرة الى نهاية القرن العشرين وبداية عصر الديكتاتوريات الحديثة, اذ لم تختلف الاخيرة عن الديكتاتورية الانتقالية كثيراً بل اضيفت لها بعض المزايا التي جاءت نتيجة الحراك الشعبي المتوقع بسبب سوء هذه الانظمة, وهذه الميزات هي ما حققت تكامل الهيئة الديكتاتورية الحديثة لسد الثغرات المتوقعة من الحراك الجماهيري والثورات الشعبية, بل حتى كيفية امتصاص الاحتجاجات الشعبية العريضة واخفاء اثرها. وكثرة المشاهد التي بشرت بعصر جديد من الديكتاتورية كثيرة, لكن الاهم منها هو المشاهد التي برزت تحطيمها واندثارها, واخر هذه المشاهد كانت متمثلة بإعدام صدام حسين واسقاط تمثاله بعد ان انتهوا كل زملائه الديكتاتوريين الذين يشابهونه بالتنظيم السياسي. ان نشأة الديكتاتورية الحديثة مبنية على الثغرات التي خلفتها الديكتاتورية الانتقالية, واهم هذه الثغرات كانت هي السلطة الداخلية المغلقة والتزمّت الفكري في اتجاه الدولة سواء كان توجهاً فردياً او متعدداً. فالمواجهات الشعبية في الديكتاتوريات عبر الازمان كانت تنجح بعد مواجهة شعبية واسعة كون قوى الدولة تتهالك تدريجياً بطول استمرار المواجهة الشعبية, وهذه السلطة حين تتلقى تهديداً او خطراً محتملاً من الشعب نفسه سيؤدي بها مباشرة للذعر والمقاومة والوحشية, التي هدفها ترويع الشارع المعارض مهما كان الثمن. مقابل ذلك تتسبب الالتزامات الايديولوجية بتقليل عمر الديكتاتورية وجعلها سهلة الانكسار, فمن عصر الديكتاتورية القديمة وحتى الانتقالية كان لابد ان يلتزم الديكتاتور بالقواعد الموضوعة من خلاله لهذه الدولة الافتراضية وان كان بشكل باطني فقط, الا ان هذا الالتزام سيحفز ولادة تيار اخر ينافسه ويواجهه, فحركة طالبان التي تحكم افغانستان اليوم قد تبدو شكلاً من اشكال الديكتاتورية القديمة الا انها تحمل الخصائص الانتقالية, فهي مهما كانت بدائية الا انها وجدت ونمت من خلال خط مقاومة شعبي شامل وكان عيبه ايديولوجياً, ذلك ما حفزه للتطور والنمو في العصر الحديث ليكون من ضمن الديكتاتورية الحديثة.
هكذا نفهم واخيراَ ماهية الديكتاتورية الحديثة, انها مزيج ونتاج تاريخي ولد من تجارب شخصيات استبدادية ورثت طغيانها وفشلها ليكون درساً لمن يليها, فديكتاتورية القرن الواحد والعشرين قد تجاوزت السلطة المطلقة ونمت بما نصطلح عليه اليوم بـ(عولمة الديكتاتورية), اذ لم يعد الديكتاتور اليوم يعتمد على قواه الداخلية فقط, بل استطاع من خلال العلاقات السياسية ان يتحالف مع الدول الاقوى منه كي يأمن وجوده وسلطته, فنرى حاكم سوريا بشار الاسد قد انتصر في حربه على المعارضة من خلال الدعم الروسي له, وتتمثل مصر دوماً بالدعم الدولي التي تحصل عليها كي يحصل السيسي على نفاذيته وبقاءه الدائم للان, بل ان حكم ايران بذاته ما كان لينجو من العواقب الدولية لولا يد روسيا ونفوذها الديكتاتوري المتواجد في المنطقة, وهذا حال كل قوة ديكتاتورية في العالم اليوم نراها اذ تسعى لخلق الترابطات السياسية مع الدول الاخرى لكي تضمن دعمها وبقاءه المستمر. ومن ناحية الحكم فقد خفت حدة الالتزامات الايديولوجية التي تمليها الدولة, فالقوانين الدستورية اصبحت شكلية ولا ترتبط بالأحداث والوقائع الدورية, وان كانت مطابقة داخلياً فلن تكون متوافقة مع السياسات الخارجية, ما يجعل موضوع التنازل والاتفاقيات ممكناً ومطروحاً دوماً حتى وان خالف المبادئ الاساسية التي تبني دستور هذه الدولة او حتى بنيتها الحكومية والشعبية. وليس بالأمر الخفي سعي اطراف القوى العظمى دوماً لاتفاقيات سياسية نفعية للطرفين متجاهلين اساس الصراع الدائر بينهم.
تظهر القضية الديكتاتورية للقارئ الان كمسألة لا حل لها, بل ان زوالها في العالم او اي بقعة في العالم بات مستحيلاً اليوم, خصوصاً مع الشمولية والعولمة الديكتاتورية التي تسمح لأي حاكم ان يستغني حتى عن من يدعمونه من الشعب, سواء من الافراد او اجهزة الدولة, ويديم سلطته من خلال القوى الخارجية التي تدعمه. لكن متى كان الشر بدون ندِّ كفؤِ له في زمن من الازمان؟ والدليل على ذلك هو تطور الديكتاتورية التدريجي الذي انهى عصراً وانتج عصراً جديداً حين لم تعد الاساليب تحقق نفعاً وكفاية مطلوبة في العصر ذاته, بل لا يعتبر تمادياً منا لو قلنا ان تيار العولمة الديكتاتورية ذا الاساسات المرنة سيواجه تيار العولمة التوعوية, فالوعي الجمعي يزيد يوماً بعد يوم, الى ان يصبح يوماً تياراً ذا ثقل قادر على مجابهة الديكتاتورية العالمية. هذا ما يؤكد لنا امكانية مواجهة هذا التيار السياسي الديكتاتوري العالمي, لكن السؤال الاهم كيف سنواجه هذه العولمة الديكتاتورية؟ واي الاساسات التي من المفترض ان نعتمد عليها؟
ان اختلاف تركيبة الانظمة الديكتاتورية حسب عصرهم لم يمنع اجتماعهم على نفس المبادئ الاولى التي ناقشناها مسبقاً, ما يثبت بالاستدلال القاطع ان سر انهاء اي دولة ديكتاتورية, سواء الحديثة او الانتقالية او اي عصر ستتطور به الديكتاتورية, مبني على تحطيم وانهاء المبادئ الاساسية التي ترتكز عليها اي ديكتاتورية. لذا سنعطي بنفس التسلسل السابق كل مبدأ وثغرته التي من خلالها نستطيع القضاء عليه.
بالتأكيد ان اي دولة مبنية على القمع الديكتاتوري لابد لها من مجموعة نشاطات وتقديمات سياسية تعوض او تغطي الصورة القمعية المتعارفة عليها, وغالباَ ما تكون هذه النشاطات والتقديمات هي المبرر لكل داعم للديكتاتورية, سواء في عهد وجودها او في عهد زوالها. ذلك ما صنع اتجاهاً تاريخياً عاماً بقياس الحاكم وتقييمه, وهذا الاتجاه العالمي هو الذي يقيم الحاكم على اساس انجازاته بغض النظر عن القمع الذي ارتكبه. وهذه الدوامة هي من جعلت الديكتاتوري كخيار متاح مقبول نسبياً دام انه يقدم او يحقق مجموعة من الواجبات الحكومية. يتمثل الانقلاب المفصلي للتخلص من هذا المبدأ على محورين: الاول هو الادراك بان الانجازات الحكومية, سواء دولة سلمية بالكامل او ديكتاتورية بالكامل, هي واجبات مفروضة عليهم يحسن ذكرها لا شكرها وتمجيدها لتحقيقها, حتى وان صنعت هذه الدولة معجزة سياسية في هذا الشعب فهي لم تقدم سوى حفنة من الواجبات التي يفرضها عليها المنصب الموجودين فيه, والا لما اسمينا الديكتاتور بهذا الاسم واعتبرناه امراً شنيعاً كون لا ديكتاتوري قد خلى من بصمة تاريخية له. اما المحور الثاني فهو ان يولد اتجاه اخر مضاد للاتجاه الاول, اذ يقيم ويقيس هذا الاتجاه الحاكم على اساس عدله بالموازاة مع تحقيق الواجبات السياسية المفروضة عليه, فكما قال الدكتور عبدالله النفيسي في احدى مقابلاته “لا يُقاس الحاكم بإنجازاته بل بعدله.” ونتخلص حينها من ثقل الفئات الشابة والفتية التي تستقطبها الجماعات الديكتاتورية, اذ لن يروا من اي حاكم سوى شخصية موضوعة في هرم اجتماعي وليس عليه سوى تنفيذ ما يمليه القانون, وبمجرد المحاولة للعلو فوقه فسيدنونه الى اسفل ما يكون ويستحق.
ولان السيطرة المطلقة على الشعب, كثاني مبدأ لتكوين ونمو اي ديكتاتورية, تتولد من خلال الاجهزة المملوكة او التابعة للحكومة, فيبدو امر مواجهتها عصي التحقق مهما بلغت الاعتراضات الشعبية اوجها, لان من السهل على السلطة الحاكمة كبح جماح وايقاف اي شخص منظم الى السلك الحكومي, والعرب والشرق الاوسط خصوصاً اصبح مدركاً لهذا الشيء في الفترة الاخيرة حين اندلعت المظاهرات التشرينية, اذ استخدمت الحكومة العراقية حينها كل طاقتها لتجميد الموظفين الحكوميين لديها, بل ان احد الاسباب التي انهت هذه المظاهرة هي الدرجات الوظيفية التي اعلنتها, لان الشعوب العربية مهووسة بالانضمام للمنظومة الحكومية لأجل الضمانات المستقبلية التي توفرها لهم. على الرغم ان الاساس الجماهيري المتأثر بالضمانات الحكومية يشكل عاملاً لأي ديكتاتورية الا ان من السهل علينا تجاوزه شعبياً, وهذا التجاوز مبني اما بالاستفاضة الوظيفية التي ستعجز الدولة بسداد رواتب جميع الموظفين او بازدياد الوعي الجمعي بشأن التحرير والتنظيم الحكومي البديل والمنطقي الذي يدرك ان لا دولة تستطيع توظيف كل الشعب. اما بالنسبة للشق الثاني لهذا المبدأ والمتمثل بأجهزة الدولة الاساسية, فعلى القارئ ان يدرك ما اغفله من تاريخ الديكتاتورية رغم وضوحه وشدته في العصرين الاخيرين, وهو ان كل ديكتاتورية قد تم انشاؤها كان اساسها نابع من نفس اجهزة الدولة التي يعتمد عليها الديكتاتور, معتبراً باقي الاجهزة الحكومية –بعد وصوله للسلطة طبعاً –مكملات لحكمه ويصيغه على وفق الجهاز المعني الذي اعتمد عليه, فلو قسمنا اشكال الديكتاتوريين في العالم سنجدهم اما ذوي خلفية عسكرية (كصدام حسين والسيسي ومحمد سياد بري ..الخ) اذ اتوا بالغالب من خلال انقلابات عسكرية, واما من ذوي خلفية دينية (كالخميني وهبة الله) اذ ان الاساس الحكومي المتبع يكون دينياً بالكامل, واما من ذوي خلفية اقتصادية (وابرزهم دونالد ترامب) اذ لا يرى من شعبه سوى ارقام ربحية يستطيع من خلالها تحقيق حكمه المالي. من هذا المنطلق يجب ان يشهد العصر الحديث على تصور شامل ابدي ناتج من جميع تجارب التاريخ, مفاده ان ثلاثة يمكن ان يفسدوا الحكم ويخلقوا ديكتاتورية متوقعة: رجل الدين ورجل المال ورجل العسكر, لان الثلاثة ان حكموا فلن يحكموا الا وفق الاسس الفكرية التي ينتمون اليها, نابذي ما اختلف عنهم ومنهيين ما سبقهم بجميع الاساليب القمعية التي يمتلكونها او سيمتلكونها. لذا فالوعي الجماهيري يجب ان يتجاوز اي نوع من الحكم الفكري المبني على هذه الاساسات ويؤسس حكم ديمقراطي تداولي كامل.
يعتبر مجهود كسر المبدأ الثالث هو الاعظم بالمقارنة مع ما سبق, بالرغم اننا اوضحنا ارتباطه الوثيق بالمبدأين الاولين كونه نتيجة لهما. وبرزت دراسات عديدة حوله لفهم العلاقة الحاصلة بين فترة حكم الديكتاتوري وبين طبيعة حكمه الديكتاتورية, ومعظمها يدور حول الاساليب الممكنة والفعالة لأسقاط وانهاء اي نموذج ديكتاتوري. الا ان اغلب هذه الدراسات هي خيالية وخالية من الفهم الكامل والتجربة الحقيقية للحياة الديكتاتورية, ننقل اشهرها وهو ما انتجته مؤسسة البرت اينشتاين من خلال الكاتب جين شارب ودراسته تحت عنوان “من الديكتاتورية الى الديمقراطية.” اذ بالرغم من طرح شارب الكثير من الامور التي من الممكن ان تساعد لأسقاط الديكتاتورية, واغلبها امور بديهية, نرى في بعض الاحيان تبسيط شارب المسار الذي يؤدي الى تحقيق الديمقراطية وبصورة مضحكة:
“يستطيع الضباط والعسكريين المتعاطفين أن يلعبوا دوراً حيوياً في النضال الديمقراطي مثل نشر سحب الولاء واللاتعاون في قوات الجيش, وتشجيع عدم الفعالية المتعمدة وتجاهل الأوامر ودعم رفض ممارسته القمع. يستطيع الاشخاص العسكريون أيضاً تقديم أشكال مختلفة من المساعدة اللاعنفية للحركة الديمقراطية مثل توفير ممر امن ومعلومات وطعام وتزويدات طبية وما شابه.” (من الديكتاتورية الى الديمقراطية, ص 51)
بلا شك ان اجهزة الدولة المركزية ستشكل عائقاً امام اي محاولة تحرير من الديكتاتورية, لكن ليس من مقدور اي فرد بالجهاز ان يحافظ على انتمائه لنفس الدولة ويتمرد عليها, والا اي شكل من الديكتاتورية الناعمة نراها؟ هذا ما يوضح لنا ان البعد الحاصل من الحكم الديكتاتوري كتجربة حياتية واقعية يجعل انطلاق الاحكام والالفاظ سهلة على الدارسين والباحثين, فلا اعتقد ان شارب سيكتب النص السابق لو التقى مرة واحدة بكنعان مكية. اما الحل الامثل لقطع امتداد اي ديكتاتورية فهي الثورة الشعبية العامة والكاملة عليه, وسواء كانت الثورة بقائد ام بدون قائد فليس ذلك مهماً خصوصاً في العصر الحالي, كون الديكتاتورية الحالية هي ديكتاتورية متسترة بالنظم الديمقراطية ومطبقة للعولمة الديكتاتورية, اي ان سلك المواجهة لا يتمثل بالحكومة الفعلية فقط بل حتى بالدول التي تدعمها وتقف خلفها, وقد شاهدنا ذلك عن كثب في فترة المظاهرات العراقية التشرينية, والتي بينت طول ذراع الجهات الايرانية التي ساعدت وتدخلت بالدولة العميقة. ويزيد الامر تأكيداً حين اصبح احد المسببات لانتهاء التظاهرات التشرينية هو موت شخصيتين إيرانيتين داخل الاراضي العراقي, مؤكدين مدى تشبع الشارع العراقي بالديكتاتورية الاستعمارية الموجودة في بلدهم. مثل هذه الوقائع التاريخية يثبت لدينا مدى اهمية استمرار المقاومة الشعبية وازالة الاستعطاف داخلها ونبذ الاتجاهات الطائفية والعرقية والدينية من مشوارها الديمقراطي, يشير شارب الى هذه القضية مع تحديدها لتكون اشبه بردة فعل شعبية – او مقاومة كما يسميها – مع التأكيد بواجب استمرارها حتى تحقق غاية وجودها:
“اذا وافقت الحركات الديمقراطية على وقف المقاومة من أجل التخلص المؤقت من القمع والاضطهاد فسينتهي بهم المطاف الى الشعور بخيبة الأمل, فقلما يقلل التوقف عن المقاومة من حجم الاضطهاد حيث انه عند زوال الضغوطات الداخلية والدولية عن الحكام الديكتاتوريين تجدهم يمارسون قمعاً وعنفاً أكثر وحشية من ذي قبل. ان انهيار المقاومة الشعبية يزيل قوة التوازن التي قيدت سيطرة وهمجية النظام الديكتاتوري. ومن ثم يفتح المجال امام الحكام الديكتاتوريين ليتحركوا ضد اي شخص يريدونه, لان الديكتاتور يمتلك القوة ليضرب فقط حيث تنقصنا القوة للمقاومة, كما كتب كرشنالال شردهاراني.” (من الديكتاتورية الى الديمقراطية, ص19)
ونحن في اعتاب نهاية البحث نكون امام تساؤل مهم: هل سقطت ديكتاتورية انتقالية بأيادي شعبية من الاساس كي نستطيع التفكير بإمكانية الشعوب بأسقاط كيان الديكتاتورية الحديثة المتينة بالعولمة الديكتاتورية؟ وسنجد الاجابة في اغرب حادثة تاريخية حصلت في الوطن العربي وهي حادثة اغتيال انور السادات, اذ ينقل لنا محمد حسنين هيكل في كتابه عن انور السادات “خريف الغصب” تعليقه عنه كأول حاكم مصري يتم اغتياله:
“كانت مشكلة السادات انه وهو ابن عصر التلفزيون لم يستطع مقاومة اغراء الافراط في استغلاله, لقد كان اول فرعون في تاريخ مصر جاء مسلحاً بكاميرا. وكان ايضاً اول فرعون في تاريخ مصر يقتله شعبه. لقد كان بطلاً في عصر الثورة الالكترونية, ولكنه كان ايضاً ضحية لهذا العصر, وعندما اختفى وجهه عن الظهور على شاشات التلفزيون بدا وكأن احد عشر عاماً من حكمه قد تلاشت بلمسة زر.” (خريف الغضب, ص29)
هذا ما يثبت لنا بشكل قاطع ان وجود الديكتاتورية الحديثة قد اعقبه مجموعة من التحديات الجماهيرية التي استطاعت التغلب على سلطان هذه المنظومة, والا لما احتجنا لعصر جديد تحتاج بها ديكتاتوريات العالم ان تتكاتف لتصنع هوية ديكتاتورية شمولية تحد من قوة شعوبها. واما عن فعالية الثورات الجماهيرية, فالبعض يظن انها الحل النهائي ولا احتمالية بعدها لتكوين ديكتاتورية جديدة او عصر جديد, وهذا شيء مخالف للحرب الابدية بين مشوار الوعي الانساني المستمر وبين الجهل البشري الذي يحمل كل سماته السيئة والشيطانية. وهذا عينه ما ادركه ستيفان زفايغ حين تناول نضال كاستيليو ضد اللاهوتي كالفن في كتابه “عنف الديكتاتورية”, اذ راودته نفس المطامح والآمال بديمومة الحرية يوماً, الا انه تيقن باستحالة انتهاء هذا الصراع الى انتهاء العالم:
“دائماً ستواجه الانسانية معارضة ضد كل تقدم, وستغدو كل البديهيات موضع تساؤل مجدداً. وما ان بدأنا نشعر بالحرية كعادة يومية ولم تعد من الممتلكات المقدسة, حتى انطلقت من ظلمات الغرائز ارادة غامضة تماماً تريد اغتصابها. دائماً حين تبتهج الانسانية بالحرية لمدى طويل ومن دون مبالاة, تغشاها الرغبة الخطيرة في التعرف على ثمالة القوة والشهوة الاجرامية لإشعال الحروب.” (عنف الديكتاتورية, ص216)
ننتهي من ذلك ان العولمة الديكتاتورية لن تنتهي الا بثورة شعبية عامة عند كل الشعوب تُخضع حكامها وحكام الدول الاخرى وتقضي عليهم, ويسبق هذه الثورة وعي جماهيري متكامل بعيد عن خلق النزاعات الفكرية والدينية بجميع اشكالها ويسعى لخلق عالم انساني يستحق العيش فيه, واهم شيء يكون مدركاً بانه حتى تحقيق هذه اللحظة وبعدها, سيبقى صراع تحرير الشعوب هو ديدن كل عصر وغايته, فأما يحققه واما يسعى لتحقيقه.