بقلم : د. علي منير حرب ـ كندا
سؤالان اثنان ألحّا عليّ فيما كنت أحدّق في سيماء الأديبة «أروى السامرائي»، وهي تهدي إليّ ما «باحت به ذاتها ونصوصها المفتوحة.
أول هذين السؤالين هو: ما كمّ الأسرار والمفاجآت التي سيكشف عنها ويشهرها ويذيعها هذا «البوح» المعلن في عنوان الكتاب، وما مداه ومساحته؟
والسؤال الآخر هو علامَ هي «مفتوحة» هذه النصوص، وما أفقها ومداراتها التي تهيم فيها الكاتبة؟
وقادني هذان السؤالان إلى ما يشبه اللهفة لمعرفة «أروى» عن طريق «قراءة الفنجان» الذي يدوّن وقائع «بوحها» ويرسم رموزه طولًا وعرضًا. وانكببت أصغي للـ«بوح» مقروءًا، وأمسك بالحروف والنقاط والصور، لأخرج ببعض الانطباعات، التي لا أروم فيها ممارسة وظيفة النقد الأدبي، بقدر ما كنت مدفوعًا لجمع الثمار الفنية والتسلّل داخل قشورها اللينة، بهدف تحليل ما تحتويه من مذاقات، واستلهام ما تنشره من أقواس اللون والطعم والشكل.
وسرعان ما أدركت، أننا جميعًا، ومهما بلغت درجاتنا في الرقيّ والتخلّف، كنّا وسنبقى – كتّابًا وقرّاءً، ساردين ومستمعين ونقّادًا – أسرى الحكاية، هذا السحر التاريخي الآخذ بمجامع القلوب والعقول، الذي وُلد معنا لحظة إطلاق الشهقة الأولى لاستقبال الحياة، وما فتئ يحثّنا على إقحام «ذواتنا الخاصة» فيما يعنينا ويعني غيرنا.
في البدء كانت الحكاية! كانت قطب الجاذبية الذي يشدّ الإنسان إلى البحث والتنقيب عن الأخبار، كما يأسره الجوع والظمأ للاستماع والوقوف على أسرار الآخر، ممن يحيط به ويشاركه رحلة الحياة.
حين يمارس الكاتب فنون لعبة اللغة والصورة، فإنما يكون قد باشر رحلة الكشف عن ذاته، وإثبات حضوره، ودعوة الآخرين للانضمام إلى فريق اللعبة والمساهمة فيها.
هي رحلة إثبات الذات على الساحة الثقافية حيث «لا إبداع خارج الذات.»
وعندما تهيم النفس بـ«البوح» بأسرارها، فإنما تكون قد استغرقت في الاسترخاء والاستسلام، وغرقت في لُججِ عالمٍ بعيد، منفصل عن لحظة الوعي الآني، لتبدأ – على سجيّتها – بعرض الأسرار والخفايا، تمهيدًا للتحرّر منها بالكلام والحوار.
وعندما تُفصح «الذات» عن دواخلها، فإنما تكون قد عزمت على الانتفاض وتجاوز الفعل الإبداعي المقصود، لتضع مولوداتها التي نمت في رحم الذاكرة، ودعت المُبدِع إلى عرض وجوه هويتها أمام المرآة، لتكون سردًا وسيرة وحكاية، تتنقل بحرية أمام أعين الناظرين، وعلى أطراف ألسنتهم، وفي حنايا مسامعهم، فيصبح «حكي» القصة فعل مقاومة ممتع ضدّ نموذج العقلانية الخشنة.
«للذات بوحها»، هو بعضٌ من السيرة الطبيعية للأديبة «أروى»، ممدّدة بين غلافين أنيقين، ومنقوشة على صدر صفحات الأيام، مضمّخة بالعطور العربية، ومزيّنة بشرائط الياسمين البلدي البكر، ومقدّمة كأغلى عطايا العمر.
هي ليست سيرة بيانات ولادة، ولا شهادات علمية، ولا خبرات عملية، إنما هي لقطات حميمة دافئة، من لحم ودم صاحبتها، شاهدة عليها وعلى زمانها وبيئتها، نضحت بما كان يمور داخل ذاتها، وما وَقَر فيها من الالتحام بالتاريخ والأرض والناس، وما عمرت به من مخزون العواطف والآمال والأحلام. وهذا النمط من «البوح» يدخل ضمن ما يعرف حديثًا بـ«سيكولوجيا السرد»، هذا الاتجاه الذي يركّز على «القصص الشخصية» التي تحاول مقاومة السرديات الكبرى، وتعمل على تنظيم الخبرات، وتشكيل النوايا، واستخدام الذاكرة، وبناء التواصل.
كل السردّيات – القصصية وغير القصصية – تطمح إلى الانتقال من مجال السرد الأدبي والثقافي إلى مجال الخطاب الاجتماعي، أو ما يعرف بـ«اللسانيات الاجتماعية والمحادثة والخطاب الذرائعي». والعلوم الإنسانية المكلّفة في معالجة السرديات تميل إلى وصفها بالطريقة «التي تتكوّن من خلالها الحياة الاجتماعية والثقافية، وهو اهتمام يشمل السرد والنسيج البلاغي الذي يؤسس لمعظم معرفتنا.»
وكانت هذه أسبق الإجابات على سؤالي الأول، وفي مقدّمة الانطباعات التي اندفعت لتسجيلها، كون هذه «الإباحات الذاتية»، التي تدخل في عالم كتابة التاريخ والتراث والعادات والتقاليد، تأتي بأسلوب السرد الفني الأدبي الجمالي الراقي، لعرض حضور الذات بما لها وما عليها، ولتنقل مشاهد بلاغية عن رؤية شفافة لرحلة كاتبة عبرت فيها بحار الذاكرة، واصطادت منها ما سكن في أعماقها من مُغرَقات الجواهر الثمينة، كما من بقايا قطع فكّكها الصدأ والعفونة.
في كل نص قصة، وفي كل قصة قضية، وفي كل قضية شهود ومحكمة. وتبقى «الذات في بوحها» هي البطل المنفرد على خشبة العرض الإيمائي المعبّر عن كل هذه القصص والقضايا والمحاكم والشهود، ليقدّم عرضًا فاتنًا لفعل التحرّر بـ«البوح».
في هذا المعرض المتنوّع، نتوقّف أمام لوحات متراوحة ومتداخلة تشكل بعضًا من المحطات التي توقّف فيها قطار العمر، وترك على ساحاتها بصمات وتوقيعات عصيّة على الزوال.
بدأت رحلة «البوح»، عمّا قد يكون قد سكت عنه الآخرون، من على ظهر «يمامة» اعتلت الذات الحالمة صهوتها لتحلّق بها وتحطّها في أحضان «غيمة» تتيح لها مجالًا أوسع للرؤية، لترصد أسرار العالم وأشكاله وصوره، قبل أن تذوب في «قلب قطرة» وتعود لترتمي في ربوع وطن مجيد، صنع تاريخ الإنسانية، واختصر الكون في ثقافاته وحضاراته. وطن تعشق رائحة عشبه الأخضر واليابس، وكان لها كل الفضاء وكل العمر.
عبر هذا «البوح» الصاخب والهادئ، الرومانسي والدرامي، الذي تداخل فيه الخيال بالواقع، والشخصي بالاجتماعي والسياسي، تظهر لنا الذات موقفها وموقعها في الزمان والمكان، فتكشف خفايا سيرة «أروى»، ابنة عشتار المترعرعة في حقول بابل وسومر، بدءًا من أبعاد ودلالات اسمها الذي خُطّ قدرًا على جبينها قبل أن تولد، والذي يحمل في حروفه معاني «الشموخ والكبرياء والعزّ»، ولا «تريد غيره مجدًا»، ليس رغبة منها في «الاستعلاء على نساء العشيرة» بل لهفة إلى «مورد» تطفئ بروائه الزلال ظمأ الحب الدفين في الأعماق.
عبر أنفاس هذا «البوح» نتأمل صور «أروى» – المرأة – التي تتجلّى فيها روح الوطنية والانتماء، والتمرّد والتحرّر والثورة، صورة المرأة العربية السجينة في «زنزانة» الحريم المظلمة، والمهمومة في كسر «حاجز الصمت» لتتحرّر من «قفص التقاليد والأعراف» التي «تكوّرت فيها أضلاعها»، وحجرت على هوّيتها وأفكارها وصوتها وكلامها. وصورة المرأة المكبّلة بـ«الخجل» من عار الإفصاح والتعبير عن وجودها وهواجسها وأحلامها، والمرصودة دومًا إلى تهمة الخروج على الموروث، فيما هي مسكونة بشغف القافية تلملم آيات العشق لتعزفها أغنية تغرّد بها طيور الحب والفرح والحياة، وإلى دخول حلبة الصراع مع مجتمع يناقض ذاته، فيتنفّس الحب ويعيشه بكل جوارحه، ثم يحرّمه على الأنثى (الحرمة)، ويحكم عليها بالرجم وإهدار الدم.
واللافت، الأسبق في هذا «البوح»، أن الكاتبة تستقبلك في المقدّمة بطرح قضية أدبية شغلت النقّاد ووزّعتهم في اصطفافات مختلفة، وهي مسألة الصراع بين التقليد والإبداع ، بين القديم والحديث. المهم عندها هو طواعية اللغة لاستقبال التغيير، وخلق مساحة وزمن للمصالحة في الإبداع بين التقليد والتجديد، بين الجذور والفروع.
واللافت الآخر أيضًا، هو أن هذه النصوص تبقيك مشدودًا إلى الرسومات التشكيلية المرافقة والموحية، وكأنها تجسّد النص وما تحت الحروف، لدعوة القارئ إلى متحف فني مليء بالحركة ومشهدية الكلمة المتراقصة على جدران صفحات الكتاب.
أما الإجابة على السؤال الآخر، حول مفهوم «النصوص المفتوحة»، فقد تولّت الأديبة «أروى» البوح عن نصفها لتعلن أنها «نصوص شعرية مفتوحة على جمالية التعدّدية في الموضوعات» المطروحة بمضامينها وأبعادها.
كانت صياغتها إيمانًا بإيجاد تركيبة كيميائية تتفاعل مع الإيقاعات السحرية لتراثنا الشعري العربي الرصين، بالإضافة إلى تجريدية اللحظة وما فيها من الثنائيات المتناقضة من أجل فتح نقطة للعبور ما بين الكلاسيكية التقليدية الماضوية المتشبّثة في الشرايين والمكبّلة للأجنحة، وبين الشوق الجارف للانعتاق ومغامرة التحليق في فضاء لامحدود، نكتشف فيه عبقرية لغتنا، ومهارات صناعتنا الفنية في إطلاق الحبيس المكنون من الروعة والبهاء.
أما النصف الآخر لهذه الإجابة فإنني أراه في التساؤل عن طبيعة «البوح» إن كان حقًا ما تشتهي الذات أن تفكّ أسره وتحرّره من بين الضلوع؟ أم أننا لا نملك فعلًا إلّا بعض مفاتيح القيود التي يسمح بها القلب وتصعب على العقل؟ من هنا يمكن أن ندرك بلاغة تلك «الواو» التي التصقت بالعنوان الداخلي للكتاب، «وللذات بوحها»، لتؤشر أن بوح الكاتب في الحقيقة بوحان: مقصود عندما يحدّده الوعي والعقل، وعفوي كتفتّح أكمام الورد، عندما يفيض به نهر الذات على ضفتيه. فكما يكون ثمّة بوح متعمّد يتشارك فيه معظم الحكواتيين، فإن للذات أيضًا بوحها الخاص الذي يخضع فقط لمعيار وضع الذات وزمنها وطبيعة ومقدار ما تجود به من كشف وإشهار
من هنا أرى أن الكاتبة الأديبة «أروى» قد شيّدت ضمن حدود معيّنة، لا يتجاوز أفقها تلك الرقعة الزمنية والعمرية التي سمحت بها الذات للجهر بمخزونها وإظهار مقتنياتها، رسمتها الخبرات السابقة، تمهيدًا لجولات قادمة من «البوح» والإشهار والكشف، تتولّد مما يتكوّن في محطات أخرى، آمل واتوقع ألّا تكون بعيدة، تتصدّر فيها «الذات» كرسي الحكواتي من جديد، لتروي لنا ما جمعته من انعكاسات رحلة قادمة في دنيا الإبداع الأدبي، وتحتلّ أمكنتها في «النصوص المفتوحة» دائمًا للمستقبل. ولعلّ من أروع نماذج الإبداع، هي تلك التي تعطي ثمارها نصوصًا «مفتوحة من بوح الذات»، متنقّلة ما بين شغاف القلب والعقل، بين قيود الوعي وحرية التحليق في الفضاء الرحب.
الأديبة السامرائية حسناء البصرة، «أروى»، المثيرة لمتعة الشغب، الشابّة عن الطوق، والمطوّقة بجلال بابل والرافدين.