الجزء الخامس : سلامة موسى-احلام الفلاسفة و محمد الصدر
كتب : أمجد حميد- العراق
كل العلوم لا تحظى بتقدير تاريخي و لا علمي ان لم يكن لها أسس و قواعد تسير عليها , و ان كانت هذه الاسس و القواعد قد حظيت بمجرى تطوري حتى اصبحت على ماهيتها المطلوبة . الا ان علم الفلسفة للأسف لا يحظى بهذه الميزة المطلوبة , و هو ما جعله دائماً علماً مستخفاً به من قبل العامة و الخاصة على حد سواء . هذه المعضلة في النهاية تشكل في اذهاننا تساؤلاً استدلالياً : ان لم يكن لعلم الفلسفة اسس و مبادئ معينه ثابتة في كل المراحل التاريخية , اذاً فما الشيء الذي يعطي احقية اعتبار الفلسفة علماً , او بمعنى اخر , ما الذي يضفي على الفلسفة شرعيتها لتكون علماً ؟
و باستنتاج بسيط و نظراً لكل ما قدمناه في هذه السلسلة المطولة يتبين لدينا ان اجمل ما يميز علم الفلسفة هو انه غير محكوم لا في زمان و لا في مكان يجعله تحت اطر فكري معين ما يلزم رواده لجعل اكتشافاتهم تراكمية او ثابتة , اذ ما يعيبه هو ما يميزه , فهذا الامر عينه الذي جعل تحليل و اضفاء صفة الفيلسوف على عالم ما امراً محيراً دوماً كون المقاييس غير واضحة المعالم مهما حاولنا ازالة ضبابيتها , لان الفلسفة مهما ثبتت و اتفقت في مجموعة من القوانين , فان قوانين هذا العلم لا تسري بشكل ثابت دائماً أو شبيهه بمبدأ رياضي مفروض على الجميع (2=1+1) فيتسنى لنا على الاقل تحديد ظلال الدائرة الفكرية الفلسفية . بالرغم من ذلك , فنحن مجبرون على اعتماد مؤشرات اخرى و غير مألوفة نسبياً لكي نلتمس سبيلاً ثانوياً في ذلك , و هذه المؤشرات ليست مرتبطة بالمعطيات الوضعية بل بموضوعاتها المأخوذة , اي كوننا معتمدين على الموضوعات و المسائل التي يقوم الفيلسوف –او من نحاول اكتشافه هل هو فيلسوف ام لا – بتناولها و مناقشتها في حروفه سيجعلنا داخل الافق الفلسفي و عالمه , اذاً فما هذه الموضوعات التي ستترفع من شأنها لتكون مقياساً للفيلسوف حين يتناولها بدل ان تكون السعي العلمي لها هو المقياس ؟
و لا اظن ان القارئ العزيز قد استغرق من الوقت الكثير لكي يتنبأ بهذه المواضيع , اذ اننا قد التمسناها مراراً في كل شوط خضنا فيه داخل السلسلة النقدية , لكننا سنضطر لاختزالها في ثلاث مواضيع شاملة, و لن نناقش بشكل مسهب منها الا واحد كون الاخريات قد اخذن نصيبهن من الشرح , و هذه المواضيع هي: الانسان و نواحيه , المعرفة بكل جوانبها , و السياسة و شؤونها.
فلو التمسنا الجوانب الانسانية و موضوعاتها في فلسفة الصدر لوجدنا مستوى تحقيقها يفوق المتوقع , بدليل انه جعل المحورية الموضوعية هي الدراسة المجتمعية , كونه كان مؤمناً من استهداف المشروع الماركسي و مدرسته للمجتمع و ان كان الاقتصاد هو الاداة من الاساس . و احد الشواهد الكتابية من قبل الصدر على ذلك هو تهجمه اللاذع على فكرة الحرية الاجتماعية و الاقتصادية التي يتحكم بها الجانب الشيوعي باعتقاده , و في هذا يقول :
“وكيف يمكن أن يطمع بالحرية – في ميدان من الميادين – انسان حُرِمَ من الحرية في معيشته , و ربطت حياته الغذائية ربطاً كاملاً بهيئة معينه , مع ان الحرية الاقتصادية و المعيشية هي اساس الحريات جميعاً؟” (فلسفتنا , ص42)
و من جانب تناوله للمواضيع المعرفية , فالاستشهاد في ذلك محتوم معرفته كون ان جل ما تناوله في الكتاب مبني على نظرية المعرفة و تحليلها , فالجانب الاسلامي كما هو معهود عليه يرى ان المعرفة يجب ان تكون دائما تحت اسس و معطيات لا تخرج استدلالاتها عن الدائرة اللاهوتية على الاقل , و ان خرجت بين الحين و الاخر عن الدائرة الاوسع و هي الدائرة الدينية . لذلك فان الجوانب المعرفية المؤكدة لديه و ان كانت مفتقرة الى التجديد فهي امتلكت حصتها من هذا الكاتب ما دل على اهتمامه و ان كانت غائية غير مباشرة الا انها وجدت و كان ذلك يكفي لحسبان هذه المشاركة كنقطة تدعم اعتراف الصدر بانه فيلسوف .
اما الجانب السياسي الذي سيشغل هذا الجزء من الدراسة فان معالمه نجدها تارةً متداولة بشكل غير مباشر , من خلال ما يتم نقده و تفنيده على الجوانب الفلسفية و الاجتماعية من قبل الصدر , و تارةً اخرى نراه يعلن بصورة مباشرة ارتباط الافكار الماركسية بشكل وثيق بأهدافها السياسية , بل نجد النبرة الاتهامية تعلو لدرجة اعتبار ان جل ما انتجته الفلسفة الماركسية هي ليست سوى محاولات لخلق منظومة فلسفية جديدة تتفق مع اتجاهاتهم و طموحاتهم السياسية العالمية:
“فالمسألة – اذن – هي مسألة التطوير السياسي المقترح الذي لابد أن يجد منطقاً مبرراً له, وفلسفة يرتكز على قوائمها. ولذلك كانت الفلسفة الماركسية تضع القانون الذي يتفق مع مخططاتها السياسية , ثم تفتش في الميادين العلمية عن دليله , مؤمنة سلفاً – وقبل كل دليل – بضرورة تبني هذا القانون ما دام يلقي شيئاً من الضوء على طريق العمل و الكفاح.” (فلسفتنا , ص303)
أن هذا الاتهام المزعوم من قبل الصدر خطير و مغلوط ايضاً للاسف , كذلك انه يمسه بشكل مباشر ايضاً كون ان فلسفته لم تبقى مسجونة خلف اصفاد الكلمات و العبارات في كتابه بل وظفها الصدر ايضاً لتتمرد على حدودها , و انتجت في فترتها و بعدها حزباً يمثل كل انتاجات الصدر و على رأسها الانتاج الفلسفي الا و هو “حزب الدعوة” الذي شاء له ان يناصف و يجابه التيار الماركسي العالمي بتوجهه الاسلامي البحت , شأنه شأن حزب الاخوان المسلمين الذي سبقه بثلاث عقود مع بعض الاختلافات الابستمولوجية التي لا تعنينا الان في هذا البحث .
هكذا نتبين ان المواضيع السياسية هي الاساس في هذا الكتاب و ان كانت المضامين المتناولة هي مضامين فلسفية و اجتماعية بالدرجة الاولى , ما يدل من وجهة نظرنا على تفلسف الصدر و انه فيلسوف حقيقي ايضاً كما اشرنا و انتهينا من ذلك . لذلك فان الجانب السياسي المطروح يرتكز من جانب الصدر على مصدرين أساسيين : خلفيته الانتاجية الشاملة و ليس على هذا الكتاب فقط – ما سيفرض علينا عدم التشعب الى تحديد موضوعات البحث الذي سنتطرق اليها في البحث السياسي عند الصدر – متمثلةً بخلق و تكوين المدينة الفاضلة الجديدة في العصر الحديث باسلوب اسلامي , و التطبيق و الانشاء الواقعي لها الذي تمثل بحزب الدعوة الاسلامي و مدينة اسلامية فاضلة نسعىى لكشفها الان.
و قبل الدخول في تفاصيل الجوانب السياسية لفلسفة الصدر , يجب علينا توفير موجز فعلي لما سيكون مقياساً لهذه الجوانب و تحقيقهما و نجاحهما مع ارتباطها المباشر بموضوعنا المتناول , و من الطريف ان يدرك القارئ العزيز ان المقياس الذي سنتناوله هو شخصية ماركسية كان رائد الاشتراكية المصرية ومن أول المروّجين لأفكارها على الصعيد المصري و العربي على حد سواء , الا و هو المفكر العظيم سلامة موسى . و ان سبب اختيارنا له ليكون مقياساً لتفلسف الصدر ليس كونه شخصية ماركسية بالدرجة الاولى بقدر ما نريد توظيفه و تجسيده بالكامل و بشكل اساس من خلال كتابه الموسوم و هو “احلام الفلاسفة”.
ان ما يدفعنا لتوظيف هذا الكتاب ليكون مقياساً لاظهار الجوانب السياسية لفلسفة الصدر هو ان البعد السياسي فيه هو احد الابعاد المهمة المتبعة للاستدلال الفلسفي على الفيلسوف الذي يذكره في كتاله , لاننا ان لم نثبت وجود البعد السياسي في فلسفة الصدر لن نستطيع اعتبار فلسفته فلسفة من الاساس , فان هذا البعد السياسي المؤطر في فكرة دولة ديمقراطية تجعلنا نفكر في ما سعى له سلامة موسى في عمله “احلام الفلاسفة” لاظهاره و تجليه في المشوارر التاريخي البشري , فهو جمع الفلاسفة الذين يحملون نفس هذا الهوى و المشروع مبيناً عظمة هذا المسعى و محوريته في تشكيل الكثير من افكار الفلاسفة المهمين في التاريخ , لذا توجب تقديم شرح متواضع عن ارتباط سلامة موسى في هذا البحث و كتابه احلام الفلاسفة , ما يدفعنا بنفس الوقت لربط و تأكيد المصدر الاول المذكور اعلاه و شرحه في ان واحد .
في هذا الكتاب , حاول سلامة موسى تحليل و مقارنة خيالات الفلاسفة و احلامهم في اوطان مثالية باجواء فردوسية لا يحمل اي شبر منها غير المثل و الفضائل العليا , ما يجعل هذا الكتاب برزخاً يدخل اليه من استطاع ان يظهر او يصنع منظومة فكرية تسعى ان تتحكم و تدير شؤون مجتمع وفق نظم و اسس سياسية ترتبط بشكل مباشر بنتاجه الفلسفي و اطروحاته الفلسفية في حياته . و نستجمع كل ما اوضحناه في ما قاله سلامة موسى بشأن ذلك:
” والفيلسوف ومن إليه من المفكرين يختلفون عن الكاهن المصري القديم الذي يمثل أحلام سواد الأمة من حيث إنهم لا يجعلون ميدان حلمهم في العالم الثاني؛ فإن همومهم الذهنية مقصورة على هذا العالم، والناس على الأرض — لا الملائكة في السماء — هم موضوع كلامهم وخيالهم؛ فهم يرون من الخبط والخلط في الهيئة الاجتماعية، ومن الظلم والإسراف في معاملات الناس ما يحثهم على اختراع نظام أوفى يضمن لهم أكمل ما يتوهمون من صور العدالة والصحة والعمار؛ فهم يحلمون لنا ونحن أحياء على هذه الأرض ولا يبالون بنا بعد موتنا؛ لأن الحياة — لا الموت — هي موضوع تفكيرهم وغاية نظرهم في الإصلاح، ولا ننسىأن كل إصلاح حدث في الماضيأو سيحدث في المستقبل، إنما هو حلم من أحلام المفكرين.” (أحلام الفلاسفة , ص9)
و هكذا يتبين للقارئ كيفية خلق المدينة الصدرية الفاضلة و ما نحاول ان نشرحه و نوضحه ملياً فيها كمصدر اساسي لاثبات فلسفة الصدر , و حري بنا ان نتبع المبادئ الفلسفية التي استخدمها سلامة موسى في هذا الكتاب مع وضع المؤاخذات و التغييرات في الاراء ان وجب ذلك . هذا ما يستدرجنا تباعاً لمناقشة ما حاول رسمه الصدر ليكوّ المدينة الفاضلة الخاصة به , و التي لا تتضح معالمها كاملة في هذا الكتاب بشكل مباشر من قبله بل تحتاج الى التمحيص و التنقيب عنها لحجم المشروع المراد من الصدر . و لا نحن نريد الغوص في اعماق هذه المدينة , لكن يكفينا ان نوضح الاشارات التي تدل على وجودها , و افضل وسيلة سنعرج عليها هي رؤية تجربة ممثالة لتجربة الصدر حاول سلامة موسى من خلالها ان يعبر عن ما ينظر فيها و ينقدها . و هذه المحاولة هي المدينة الفارابية الفاضلة التي انشأها المعلم الثاني محمد الفارابي و كتابه المعهود “اراء اهل المدينة الفاضلة و مضاداتها” , و تكمن محاولتنا للمقارنة في تحسس الجوانب السياسية منها و الفلسفية , مع رؤية رأي سلامة موسى بعدها و تقييمه لها .
و كتحليل سبقي لهذا الكتاب نرى ان اهم الجوانب التي نلحظها في مدينة الفارابي ممثلةً البعد الفلسفي و السياسي هي الروحية اللاهوتية الذي جعلها الحجر الاساس لهذه المدينة , و التخلص الكامل من بعض الاراء المضادة للدين و اللاهوت و نبذهم خارج مدينته كالراي الديالكتيكي بصورته القديمة في عهده و الجديدة التي نراها اليوم على حد سواء . و لا يسعنا الدخول في تفاصيل كثيرة بخصوص هذا الكتاب الا اننا سنشير بصورة مباشرة للجانب الاخير الذي ذكرناه و قوله فيه :
“ والمدن الجاهلة والضَّالَّة إنما تحدث متى كانت الملَّةُ مبنيَّةً على بعض الآراء القديمة الفاسدة. منها؛ أن قومًا قالوا: إنَّا نرى الموجودات التي نشاهدها متضادَّة، وكلُّ واحدٍ منها يلتمس إبطال الآخر، ونرى كلَّ واحدٍ منها، إذا حصل موجودًا، أعُطي مع وجوده شيئًا يحفظ به وجوده من البطلان، وشيئًا يدفع به عن ذاته فعل ضدِّه، ويجوِّز به ذاته عن ضدِّه، وشيئًا يُبطل به ضدَّه ويفعل منه جسمًا شبيهًا به في النوع، وشيئًا يقتدر به على أن يستخدم سائر الأشياء فيما هو نافع في أفضل وجوده وفي دوام وجوده.” (اراء اهل المدينة الفاضلة و مضاداتها , ص96)
و كأن الفارابي قد تنبأ تاريخياً بما سيجري لهذه الفكرة و كيف سيعلوا شأنها في العالم فاوضحها و اوجز في نقدها , لدرجة ان هذا التسقيط قد انعكس سلباً في صلب رأي سلامة موسى عنه و عن ما حلله الفارابي لجمهورية افلاطون , فنحن مدركين سلفاً ان الفارابي – شأنه شأن اي فيلسوف أسلامي – لن يكون متوقعاً منه ان ينشأ دولته المعهودة بدون ان تكون متجذرة من اصول لاهوتيه و اخلاق دينية , و هذه الجزئية قد دفعت سلامة موسى للاسف لتهميش نقد الفارابي و محاولته لانشاء دولة فاضلة بسيطة اذ نراه مُعَلِّقاً:
“ولا شك في أن المدينة الفاضلة كما توهمها(الفارابي) ترجع الى افلاطون في الايحاء, بل في بعض الترسيم أيضًا، ولكن الفارابي جريًا وراء النزعة التي كانت سائدة في عصره أفلاطون وبحثها وشرحها أكثر مما اعتمد على ترسيم الجمهورية « إلهيات » اعتمد على « الجمهورية » للفارابي و « المدينة الفاضلة » الإنساني، حتى ليكاد يفقد الإنسان الصلة بين لأفلاطون.” (أحلام الفلاسفة , ص12)
قد يتبين للقارئ ان عدم انضمام الفارابي بصورة رسمية لسفينة سلامة موسى او Muses’s ship, كما اقترح هذا المصطلح و اسلمه للزمان ان علا شأنه او اختفى , هو اشارة استدلالية كافية للتأكد من عدم انضمام الصدر لهذه السفينه ايضاً, خصوصاً و ان مسعانا لاثبات فلسفة الصدر قد ربطناها بشكل مباشر بهذه المدينة الفاضلة , فيكون السؤال الذي سيمثل اجابته النقطة الحاسمة للنقد الذي نسعى له لهذه الفلسفة هو : لو كانت فلسفة الصدر قد وجدت قبل كتاب احلام الفلاسفة , هل سنراها تتضمن من قبل احلام الفلاسفة عكس ما حدث مع مدينة الفارابي , بمعنى هل بامكانننا ان نضمن تواجد فلسفة الصدر في كتاب سلامة موسى احلام الفلاسفة ؟
و الواقع ان الاطروحة الفارابية , بالرغم من حملها نفس المشروع الصدري و تجلياته , الا انها تختلف ببعض الجوانب عن الاطروحة الصدرية متمثلة بمجموعة من المناحي العلمية منها و السياسية , و نستخلصها مجملاً بالاتي : المرونة التجديدية بالفكر و الحكم و العلم في انشاء و تكوين المدينة الصدرية الفاضلة , و انتقال المشروع من الصيغة الورقية الى الفعليه متمثلاً بحزب الدعوة .
يعتبر التجديد مهمة صعبة جداً عند كل مفكر ديني و خصوصاً ان كان اسلامي , فلا غاية تترتب على التجديد الا و ترسم بعقل العامة و الفئات الدوغمائية المتطرفة في كل زمان على انها تحدي و استنكار للموروث الديني و اللاهوتي , ما يجعل اي محاولة تجديدية من قبل اي مفكر او فيلسوف اسلامي و ان كانت غير مكتملة المعالم هي انجاز او محاولة تحتسب له . و المرونة التجديدية عند الصدر كانت محاولة توازي خط الفكر السياسي الجديد لوجود المدرسة الماركسية و سياستها العالمية , اذ اننا كما اثبتنا سابقاً ان لولا وجود هذه المدرسة لما وجدت فكرة الصدر , لذا فان هذه اللازمة فرضت على الصدر تحديث و معاصرة مشروعه لمعطيات و متطلبات عصره , ما جعله يذكر حتى في كتابه فلسفتنا الامور الاقتصادية البعيدة كل البعد عن موضوعات الكتاب و حيثياته:
“فان ماركس يذهب الى ان النقد يمر بتغيرات كمية بسيطة , تحصل بالتدريج , حتى اذا بلغ ربحه حداً معيناً حصل الانقلاب النوعي و التحول الكيفي بصورة دفعية , واصبح النقد رأسمالاً . و هذا الحد هو: ضعف معيشة العامل الاعتيادي , بعد تحويل النصف الى راس مال من جديد . وما لم يبلغ هذه الدرجة . لا بوجد فيه التغير الكيفي الأساسي , و لن يكون رأسمالاً.” (فلسفتنا , ص316)
و قد بينا مسبقاً ان القفزة التي قدمها الصدر في اطروحته لم تقتصر فقط على المستوى الكتابي المغلق بل خرجت الى اكبر من ذلك و هو ما اشرنا اليه مسبقاً بحزب الدعوة . فحزب الدعوة الاسلامي هو احد الاشارات المهمة الناجحة التي قد تجعل سلامة موسى مهتماً لوضع الصدر في كتابه , اذ ان هذه الانتقالية و تحقيق المسعى الذي اسس له الصدر في كتبه هو من الادلة على حقيقة و جدية المشروع النقدي المراد و عدم اكتفائه بالرد فقط . لذا فقد راينا بعد تاسيس الحزب و الى الان تقريباً يحاول اتباع الصدر و اعضاء هذا الحزب الى ادلجة و تحجيم الدولة العراقية لتكون تحت الراية الاسلامية الصدرية و ما سعى له في كتابه بشكل محوري .
بعد الاسهاب العام و الوافي توضح لنا بشكل كامل ما عنيناه بالمصدر الاول بقضية انشاء الدولة الفاضلة و مناحيها و مقارنتها بالمدن و الاحلام الاسلامية التي سبقتها , و هذا ما ينقلنا مباشرةً لمناقشة المصدر الثاني و هو انتقال المدينة من الانشاء و التنظير الى الواقع و التاسيس و المتمثل بحزب الدعوة الاسلامي . و من الواضح ان حزب الدعوة الاسلامي هو احد الاشارات المهمة الناجحة التي قد تجعل سلامة موسى مهتماً لوضع الصدر في سفينته , اذ ان هذه الانتقالية و تحقيق المسعى الذي اسس له الصدر في كتبه هو من الادلة على حقيقة و جدية المشروع النقدي المراد و عدم اكتفائه بالرد فقط . لذا فقد راينا بعد تاسيس الحزب و الى الان تقريباً يحاول اتباع الصدر و اعضاء هذا الحزب الى ادلجة و تحجيم الدولة العراقية لتكون تحت الراية الاسلامية الصدرية و ما سعى له في كتابه بشكل محوري .
و على سبيل الاثبات و الدليل , و لا نرى بذلك حاجة ماسة كون ان التاريخ لم يشهد مثل هذا المشروع الصدري الا بشكل نادر جداً , فاننا سنستكشف ما ان كان سلامة موسى قد حمل في سفينته فيلسوفاً كان يحمل حلماً مصبوغاً بشكل كامل بمادئ دينية . و اذ السبيل بهذا الاستكشاف ينتهي بنا الى فيلسوف فريد من نوعه قد تناوله سلامة موسى و هو (يوحنا فالنتين أندريا) الذي كان حلمه و مدينته الفاضلة باسم (كريستيانوبوليس) او المدينة المسيحية . و بالرغم من ان مدينة يوحنا كانت تحمل جوانب وعظية و متصلة بالحكمة – كما يصفها سلامة موسى – الا دخل في كل تفصيلة تخص مدينته من الامور الزراعية و الصناعية الى الامور الاسرية و التربوية , بل حتى التنظيم القانوني و السياسي قد اعطاه حقه و ربطه كالعادة بالعقيدة المسيحية :
” والآن وقد ذكرنا شيئًا عن الصناعة والتعليم والعائلة، فلنقل شيئًا عن الحكومة؛ ففي المدينة مجلس مؤلف من ٢٤ عضوًا، والهيئة التنفيذية لهذا المجلس مؤلفة من ثلاثة أشخاص، هم: الوزير والقاضي ومدير التعليم، وأولهم يمثل ضمير الأمة، والثاني الفهم ، والثالث الحقيقة، وإليك ما يقوله الآن عن عقاب المجرمين : (إن قضاة المدينة المسيحية يتبعون هذه العادة، وهو أنهم يعاقبون بأقصى العقوبات تلك الجرائم التي تقع من إنسان نحو لله، ثم يعاقبون بأقل قسوة تلك الجرائم التي تقع من أحد نحو الناس، وأخف ما يعاقب عليه أحد هو تلك الجرائم التي تقع بالأملاك، وأهل المدينة يكرهون إراقة الدماء؛ وهم لذلك لا يستبيحون لأنفسهم عقوبة الإعدام؛ لأن كل إنسان يمكنه أن يقتل، ولكن لا يقدر على الإصلاح إلا خير الناس.)” (احلام الفلاسفة , ص28)
يتوضح لدينا من الخلال النص المنقول امرين : الامر الاول يتمثل بان المدينة الفاضلة التي نادى بها الفيلسوف يوحنا اندريا كانت مبنية -كما وصفها سلامة موسى –بالمدينة التي تمثل حلم رجل الدين “وحلمه يراد به تحقيق المدينة المسيحية كما يتوهما رجل مؤمن بهذه الديانة.” (ص25) , و الثاني يتمثل بضعف الهيمنة الفلسفية بمجمل تعقيداتها و بنائاتها , بل ترتبط مدينته بالوعظ و النصح و الخيال بعيدة عن التركيبات الفلسفية المعقدة كما صدق سلامة موسى في وصفه “و لكنه –مثل سائر رجال الدين –يفيق كثيراً من حلمه فتغلب عليه لهجة الوعظ الديني , فما يزال يعظ و يعظ حتى يسأم القارئ” (ص25).
و كلا الامرين يوضحان بصورة شاملة الفارق الشاسع بين المشروع الذي حمله الصدر و باقي المشاريع و سمعتها في الوسط الفلسفي , فلا شك من بطلان مقولة سلامة موسى السابقة بخصوص الفلاسفة الدينيين لو طبقناها على الصدر , كونه ارتقى في فلسفته لتكون بالمرتبة النقدية و تحاول مجابهة اكبر المدارس الفلسفية العالمية و ما تنادي به . و كانت هذه افضل طريقة نستطيع ان نبين بها للقارئ مدى و حجم احقية الصدر ليكون من ضمن الراكبين في سفينة سلامة موسى او Muses’s ship حين استطاع ان يكسر المعتاد و المتعارف على الفلاسفة الدينيين منهم و المسلمين باعطاء و انشاء منظومة فلسفية اولية و ربطها بالواقع من خلال تحرك سياسي حزبي فعال و مستمر التطور .
هكذا يتوضح لدينا اهمية المصدر الثاني و كيف عزز من امكانية ضم الصدر الى حزب الفلاسفة الحالمين في سفينة سلامة موسى , اذ ان من النادر وجود فيلسوف استطاع ان يمزج المبادئ الدينية و السياسية و الفكرية و الفلسفية في اناء واحد و يخرج بفلسفة و منهجية تستطيع –او تحلم بصورة ادق –بدولة مؤسسة باساس فلسفي بحت , و كان ضم الفيلسوف يوحنا و مدينته كرستيانوبوليس هو احد الاشارات و الدلائل المهمة التي استطعنا من خلال مقارنتها مع فلسفة الصدر ان نستوحي مدى العمق و العبقرية الموجودة عند الصدر , و التي جعلت من المؤكد ارتقائه الى سفينة سلامة موسى كفيلسوف حالم استطاع بشكل او باخر تحويل حلمه الى حقيقة . ليس ذلك فقط , بل ان التحول السياسي الذي طرأ على عدو المدينة الفاضلة من العدو السوفييتي الشرقي الى الراسمالي الغربي في العقود الاخيرة هو ما يشير بشكل واضح –وان كان الفساد يملك حصة من ذلك العداء – مدى الفكر الفلسفي السياسي الذي طمح اليه الصدر و عدم محدوديته , فهو بالرغم ان وجوده كان اثر التيار الماركسي الا ان فطنة الصدر البسيطة كانت كافية له لادراك الاحتماليات المؤكدة لتغيير دول القوة العظمى , فنرى تحول الاتجاه السياسي لحزب الدعوة قد تحول تدريجياً حسب الاحداث التي تطرأ عليه في الزمان و المكان المحكومان بامره .
نستخلص من بحثنا ان الصدر يستحق باسم كتابه هذا ان يسمى فيلسوف , بالرغم من الادلة الثانوية التي تم تناولها بالاجزاء السابقه , الا ان ما قدمناه في هذا الجزء جعلنا مدركين اكثر ان لا مندوحة من الاعتراف بنجاح الصدر حين ولوجه و فلسفته الى الجانب السياسي , ما يجعلنا مع ادلتنا المذكورة اعلاه ننتبين و نتاكد بان الصدر كان من الممكن ان يكون من ضمن الفلاسفة الحالمين عند سلامة موسى و سفينته العظيمة . و ينقلنا كل ما قدمناه في هذه السلسلة الى الجزء الاخير من هذا البحث و هو لاجل معرفة ما هي مكانة هذه الفلسفة عالمياً و ما المكانة التي تستحقها , وهل ستبشر –او بشرت -بقفزة فلسفية سواء على المستوى الشيعي او الاسلامي ام لا ؟ و هذا سيكون حصيلة و حصاد ما اثمرناه من جهود في هذه السلسلة المطولة ان اجبنا بكل مصداقية و معرفة عن كل الاسئلة التي سبق ذكرها.