الجزء الثالث: مقاربة نظرية بين فلسفة الصدر و الفلسفة الاسلامية
كتب : أمجد حميد ـ العراق
أخذت الفلسفة الاسلامية الحديثة على يد محمد الصدر منحى مختلف تماماً في كل جزء من تركيبتها المتنوعة , بل حتى مع معطياتها المتشابهة , لان المعطيات التي شابهت السلف كالعلية و الميتافيزيقية و المسلمات لم تعد تظهر للمتلقي بأسلوب كلاسيكي لاهوتي بحت كالسابق كون الادوات المعاصرة و المستخدمة حديثاً اكثر تطوراً و تعقيداً من اي عهد مضى , و هذا بذاته يعتبر انجاز و ان كان على صعيد سطحي و افق واحد , لان محاولة محاورة و نقاش اكبر المنظومات الفكرية التي تحكم العالم و محاولة اسقاطها بأسلوب علمي فلسفي يحاكي الشارع الاسلامي و يتفاعل معه – بغض النظر عن قوة النظرية و صرامة معطياتها – يعطي طابع المقاومة و الدفاع عن المعتقدات المجتمعية التي يتنامى فكرها و يتطور , او على الاقل يوسع القالب الفكري للمعتقد لكي يشمل الافكار الحديثة . ذلك ما يدفعنا لتفكيك الهيكل النظري لفلسفة الصدر بشكل شامل و مجمل تفاصيله قبل الدخول الى عرش الفلسفة الاسلامية الذي شيده الصدر بمختلف تفاصيله الايجابية و السلبية.
قبل الدخول في صلب التشكيل النظري , يجب ان ننوه على ان الصرح الفلسفي الذي قام ببنائه الصدر لا تكتمل لوحته في كتاب “فلسفتنا” فقط , بل يملك ابعاداً و اطواراً تشكل تكملة هذا الصرح في كتاب اخر اسمه ” الأسس المنطقية للاستقراء” , و لان بحثنا هو موضوع خصيصاً لأجل الاول سنقوم بالإشارة فقط وقت الحاجة للأخير . ان نظرية الفلسفة الاسلامية الحديثة لم ترتكز على الأسس التي وضعناها في الجزء السابق كما هي حالها , بل كونت قواعد حداثوية مركبة – لكن ليست بالمستوى المتوقع – تواجه على قدر استطاعتها التيارات الفكرية الحديثة , و كانت مواجهة هذه التأثيرات باستخدام الاسس الثابتة لمواجهة المتغير و العوامل المتغيرة لمواجهة الثوابت التي جعلوها فيها . بمعنى اخر , ان التنظير الفلسفي في القرون الاخيرة لم يعد يملك نفس المنحى الذي اعتادت عليه الفلسفة الكلاسيكية بمختلف مدارسها . هكذا نقوم بوضع الخطوط العريضة للتشكيل النظري الشامل لفلسفة الصدر بتحديد الجوانب النظرية التي قام الصدر بجعلها اساساً للفلسفة الاسلامية , و هذه الجوانب الاساسية هي : علم المنطق , الاستنباط و الاستقراء , المادية و اللاهوتية .
توضح هذه الجوانب حجم الفجوة و البعد التاريخي الذي تمتلكه الفلسفة الاسلامية سواء من الهيكلية الفكرية او من طرق المواجهة التقليدية في البراهين , فعلم المنطق في وجوده كجانب اساسي في التشكيل النظري ساهم في محورة الهيكل على اساس المنطق الفكري الاسلامي و المبني على نظرية المنطق الأرسطي الذي يحدد مصدر المعرفة الاساسي بثنائية التصديق و التصور , و التي تمسك بها الفلاسفة المسلمين على مر العصور كونها تبسط المسار المعرفي نابذة كل التشعبات المتوقعة و التي قد تؤدي الى طرق مسدودة , لذا نرى محمد الصدر يشيد بهذه النظرية بقوله : “ويجب ان نعرف قبل كل شيء أن الادراك ينقسم بصورة رئيسية الى نوعين: أحدهما التصًور , وهو: الادراك الساذج . و الاخر التصديق , وهو: الادراك المنطوي على حكم“(ص68) . تمثلت هذه الهيكلية التشكيلية ايضاً في مسالة اساسيات التنظير الفلسفي و المادة الاساس لعملية الفكر الذي شغل بال الفلاسفة الحداثويين , فجعل من الضروري اعادة مناقشة جانب الاساس الفكري وان كان القديم نفسه , و هو ما تم الاعتماد فيه ايضاً على اسس ارسطويه و المتمثلة بقانون الاستنباط (من العام الى الخاص) , قال محمد الصدر في ذلك موضحاً رؤية المذهب العقلي و مدى توافقها مع الفلسفة الاسلامية :
“ولابد ان نتذكر ما ذكرنا مثالاً لعملية التفكير , و كيف انتقلنا فيه من معرفة عامة الى معرفة خاصة , واكتسبنا العلم بأن (المادة حادثة) من العلم بأن (كل متغير حادث), فقد بدأ الفكر بهذه القضية الكلية (كل متغير حادث) و انطلق منها الى قضية أخص منها , وهي : (أن المادة حادثة).” (ص88)
يكتمل الهيكل النظري الشامل للفلسفة الاسلامية التي وضعها الصدر مع العمود الثالث الذي اسند عليه هذا الصرح الفلسفي , و الذي يمثل الاساس الجوهري لوضع الفلسفة الاسلامية اذ لولاه لاقتضى حاجة وجودها , فاللاهوتية هي البر الامان دائماً لوجود الاديان اذ لم تشهد الاديان يوماً عدواً بحجم التيار المادي الحديث , فتوجب في ذلك اظهار المعطيات اللاهوتية و تطويرها او اعادة تصميمها لكي تكون ملائمة وطبيعة التيار الفلسفي الوليد , فنجد الصدر قد اعاد شرح مبدأ العلية و اوضحه بشكل يفند – ولو بشكل يكفي و عقلية الشارع الاسلامي – الفلسفة المادية الماركسية التي ضربت اللاهوتية في مركز فكرها و سندها و هو مبدأ العلية , فنجد الصدر قد اسهب في توضيح و تعديل و تصحيح مفاهيم العلية لكي تناسب المنهجية الفكرية الحديثة كما صرح في قوله :
“وهدفنا الرئيسي من المسألة : أن نتبين نفس المفارقة في نفس العالم , بين مادته الأساسية (العلة المادية) و الفاعل الحقيقية (العلة الفاعلية) . فهل فاعل العالم و صانعه شيء اخر خارج عن حدود المادة و مغاير لها , كما ان صانع الخشب مغاير لمادته الخشبية ؟ او انه نفس المادة التي تتركب منها كائنات العالم ؟” (ص368)
توضح الاعمدة التشكيلية الثلاث مدى الحفاظ على الإرث الفكري الذي ساهم في انشاءه الفلاسفة المسلمون عبر القرون , فمن خلال ما عرضناه سيظهر للقارئ بعض المحطات الغير مباشرة و التي تتقاطع فيها فلسفة الصدر مع الفلسفة الاسلامية السابقة بمجملها , و بالرغم من تعدد هذه المحطات التي حاول الصدر توظيفها و تجديد ملامحها لكي تلائم و طبيعة الفكر الحديث , الا اننا سنركز على ابرز محطتين تم فيهما ابراز الصلة الوثيقة و الرسالة الواضحة لإكمال السلسلة التاريخية للفلسفة الاسلامية , وهذه المحطتين هما : توسعة الحقل الفكري ليكون ديني عام اكثر من اسلامي خاص , توحيد المصدر الفكري و المعرفي و نتاجاتها من خلال تفريده ليكون اله و هو الله .
تميزت الفلسفة الاسلامية عبر عصورها الممتدة بتوسعة الحدود الفكرية و النظرية في انشاء و تطوير الفلسفة الاسلامية لتشمل الحدود الدينية العامة و ليس فقط الاطر الاسلامية المغلقة . ان المنهجية التحليلية الشاملة في الفلسفة الاسلامية تنبع من كون الفهم العميق لمدى حساسية الفكر و تأثيره على المستوى اللاهوتي و الميتافيزيقي , فالمستويان معرضان دوماً للمنافسة و التسقيط العلمي كون ان جذورهما ليسا بالقوة و الوضوح الكافي لتصدي التطور الفلسفي المليء بالتراكمية المعرفية و الكشف الواسع لكل ما يحمله الكون من اسرار بعيده عن اليد اللاهوتية السحرية و ضمن قوانين قياسية مجردة . هذا ما جعل الفلاسفة المسلمين عبر العصور متيقنين لهذا الجانب و يعمدون دوماً لمناقشة المسائل الفكرية و الفلسفية بشكل لاهوتي ديني عام , لأن الفكر و الفلسفة حين تسعى لدحض اللاهوت او الدين او الميتافيزيقية فهي لا تصوب سلاحها على دين محدد بل على الصلة التي تجمع كل الاديان بمختلف الوانها , لذا فيجب ان يكون رد المواجهة متناسب ديناميكياً مع حجم الاعتداء الموجه – و ان كان بصورة غير مباشرة او بالانحراف في بضع محطات لجوانب دينية خاصة للفيلسوف نفسه – لكي يكون للرد الفلسفي الديني اعتباره . نرى تجلي هذه الفكرة في التكوين النظري لفلسفة الصدر بأعلى مستوياتها , بالرغم من ان الكتاب قد وضع لكي يخلق حقبة دينية جديدة اسمها الدولة الاسلامية , ألا ان الصدر كان مدركاً بصورة كاملة بان العوامل الدينية المشتركة و الدفاع عنها قد تفيد لمواجهة اي تيار علمي , فيضمن بذلك ديمومة المدينة الاسلامية الفاضلة و عدم هزها بحقائق علمية تراكمية . و كانت نبرة الصدر صارخة في تأكيد هذا الاتجاه و اعتماده خصوصاً حين ناقش المفهوم الفلسفي في العالم حيث قال :
“فليس في المسألة العلمية فيلسوف الهي و اخر مادي , وانما توجد هاتان الفلسفتان و تتعارض المادية مع الالهية , حينما تعرض مسألة الوجود فيما وراء الطبيعة . فالإلهي يعتقد بلون من الوجود مجرد عن المادة . أي : موجود خارج الحقل التجريبي , و ظواهره و قواه . والمادي ينكر ذلك ويقصر الوجود على ذلك الحقل الخاص , ويعتبر الأسباب الطبيعية التي كشفت عنها التجربة وامتدت اليها يد العلم , هي الاسباب الاولية للوجود , و ان الطبيعة هي المظهر الوحيد له.“(ص236)
تتلخص محاولة تضييق الدائرة النظرية في هذا الكتاب بجعل المركزية المحورية التي يتجه لها الكتاب هي جوهر كل شيء و مصدره , الا و هو الله , فبالرغم من ان الدائرة الدينية توسعت الا انها لا تستطيع ان تشتمل على المعطيات اللاهوتية المطلقة و العابرة للحدود التي يمتلكها الاسلام , ما وجب على الصدر مناقشة و عرض القدرة الالهية كنتيجة لدحضه و نسفه – كما حاول ذك – جميع المدارس الفلسفية الحديثة و التي لا تتطابق افكارها مع الافكار و المنهجيات التي تؤمن باله خالق للكون و متحكم به و قادر على كل شيء , و مثال على ذلك قوله :
“ولا نريد بهذا أن نقول: ان اليد الغيبية هي التي تباشر كل عمليات الطبيعة و تنوعاتها , وأن الاسباب الطبيعية لا موضع لها من الحساب , و انما نعتقد أن تلك التنوعات والتطورات ناشئة من عوامل طبيعية خارج المحتوى الذاتي للمادة , و هذه العوامل تتسلسل حتى تصل في نهاية التحليل الفلسفي الى مبدأ وراء الطبيعة , لا الى المادة ذاتها. ” (ص381)
من زاوية اخرى , و بالرغم من التلاقي الشامل و التقاطع بين الفلسفة الاسلامية التاريخية و فلسفة الصدر , الا ان هناك مناحٍ تجديدية ساهمت في خلق رؤى حداثوية و اختراق البنية المجتمعية التي جل افرادها ذوات معرفة سطحية و ضعيفة . ان هذه الاطر التجديدية تبين لب الاختلاف بين النظرية الفلسفية الشاملة التاريخية و فلسفة الصدر الحداثوية , و التي نستطيع مجملاً اختصارها بجانبين محددين و هما : الرضوخ غير المباشر لبعض الجوانب الفكرية للفكر الماركسي , و محاولة محاكاة الشارع بدل النخبة كما جرت العادة لمثل هكذا انجازات نصية .
ان اساس قوة فلسفة الصدر هو في محاولة اثبات الاسس المعرفية المعاكسة للفلسفة الحديثة و دحضها بمجمل الاساليب و القوانين الوضعية الكلاسيكية التي اشرنا لها سابقاً , بالرغم من ذلك , نجد الصدر قد ادرك في مرحلة كتابته لكتاب “فلسفنتنا” – او ربما بعد كتابته – بعض الجوانب الصحيحة التي نادت بها المدرسة المادية الحديثة , الا انه كان مدركاُ بشكل حتمي ان مجرد اعتراف جزئي باي فكرة نادت به هذه المدرسة و ضمه الى الهيكلة الفكرية الاسلامية سيهدم كل ما بناه على الصعيد الفكري العام و سيحبط امال الشارع الاسلامي الذي كان ينتظر منه دحضاً كاملاً لا هوادة فيه لكي تعلوا الفلسفة الدينية الميتافيزيقية . لكن و بالرغم من هذا الموقف المطلوب لم يستمر الصدر بعدم اعترافه ببعض اجزاء ما نادت به هذه المدرسة لكن بطريقة اكثر اماناً و ابعاداُ للشبهات عليه , و هو من خلال وضع هذه الاعترافات او الاثباتات بكتاب اخر اشرنا له و هو “الأسس المنطقية للاستقراء” . و كان من المؤكد ان يكون شكل الشرح و الاثبات يصب بمصلحة الجانب الديني اي بفبركة المفاهيم الاصلية لكي تتناسب و طبيعة الفلسفة الاسلامية , الا ان هذا دليل واضح على ان البناء الهيكلي للكتاب موجه لمواجهة و ابطال المدرسة التي سيطرت على العالم مع تأجيل بعض الاعترافات لاجزاء منها و التي شملها على شكل استثنائات وليس كحقائق شاملة , و لزيادة التوضيح نرى الملازمة اللفظية التي يعممها الصدر في كتابه “فلسفتنا” نحو قضية الاستنباط المعرفي (من العام الى الخاص) و تحتيمه استحاله انعكاس هذه السلسة اذ قال:
“و النتيجة التي نؤكد عليها مرة اخرى هي : أنّ من غير الممكن اعطاء مفهوم صحيح للفلسفة الواقعية , و الأعتقاد بواقعية الحس و التجربة الا على أساس المذهب العقلي القائل بوجود مبادئ عقلية ضرورية مستقلة عن التجربة .” (ص195)
بينما على الجانب الاخر نرى تعارض شبه تام – اي مع التزام التحفظات لكي لا يبان على الصدر بانه قد ناقض فكرته في هذا الكتاب – في كتاب “الاسس المنطقية للاستقراء , و الذي يتفق فيها مع امكانية وجود معارف استقرائية كالتي ينادي بها المذهب الماركسي اذ تنشأ فيها المعرفة بطريقة استقرائية و ليست من خلال مبادئ عقلية ضرورية كما ذكرها في كتابه الثاني :
“و يترتب على هذا ان من الضروري الاعتراف بأن هذه الطريقة الجديدة للتوالد ذاتيا , التي تختلف عن طريقة التوالد الموضوعي , لا يمكن أخضاعها للمنطق الصوري أو الأرسطي الذي يعالج التلازم بين أشكال القضايا , اذ لا تقوم طريقة التوالد الذاتي على اساس التلازم بين القضية المستنتجة و القضايا التي اشتركت في انتاجها , لان التوالد ذاتي و ليس موضوعي.” (الأسس المنطقية للاستقراء , ص120)
ان المزية الاخرى التي اضافت لوناً حداثوياً جديداً لمسار الفلسفة الاسلامية هو المحاولة و لاول مرة لاستخدام الاسلوب البسيط و الانتقائي – مع الحفاظ على كمالية الفكرة – لاجل جعل النظرية الفلسفية المضاده تحاكي الشارع و ليس فقط النخبويين و القارئين الذين يبحثون دوماً عن اساسات نصية معقدة لفهم الفكرة بجميع ابعادها . ان هذا التبسيط قد تم ادخاله حديثاً على يد الصدر و هو يدل على مقدار فهمه لحجم المدرسة التي يواجهها ليس على الصعيد الفلسفي فحسب بل على الصعيد المجتمعي ايضاً , اذ ان الفلسفة الماركسية لم تملئ رفوف الكتب و عقول مالكيها فقط بل تغلغلت الى لب المجتمع , لانها كانت دوماً تهدف له و وجدت لاجله و هو الطبقة المسحوقة و القليلة المعرفة دوماً , لذا وجبت عبقرية الصدر ان يجعل النص المكتوب في هذا الكتاب مزيجاً توافقياً يسمح لان يكون مادة بسيطة تصل لما وصلت له المدرسة المضادة من جهة , و ان تكون مادة رصينة متكاملة الرؤى و الدلائل لتليق بالنخبويين و القارئين من جهة اخرى . و بالرغم اننا نستطيع التماس هذه الميزة في كل صفحة من هذا الكتاب الا اننا نريد تبيان امتزاج الهدفين و الانتقائية التعبيرية المذهلة في هذا الكتاب , و التي جعلت النظرية الفلسفية الاسلامية الحديثة واضحة جلية لجميع فئات العقول البشرية و طرق استيعابها , و احد هذه النصوص الذي يحقق غايتنا هو نقده للمذهب التجريبي اذ يقول فيه :
“أن نفس هذه القاعدة : (التجربة هي المقياس الأساسي لتمييز الحقيقة) هل هي معرفة أوّلية حصل عليها الانسان من دون تجربة سابقة ؟ أو أنّها بدورها – أيضاً – كسائر المعارف البشرية ليست فطرية ولا ضرورية؟ فاذا كانت معرفة أولية سابقة على التجربة بطل المذهب التجريبي الذي لا يؤمن بالمعارف الأولية , و ثبت وجود معلومات أنسانية ضرورية بصورة مستقلة عن التجربة , واذا كانت هذه المعرفة محتاجة الى تجربة سابقة فمعنى ذلك : أنّا لا ندرك في بداية ألامر أن التجربة مقياس منطقي مضمون الصدق , فكيف يمكن البرهنة على صحّته و أعتباره مقياساً بتجربة ما دامت غير مضمونة الصدق بعد؟!” (ص91)
يلخص الشرح الذي سبق مدى بساطة تفكير و مساعي الصدر في مواجهة المد الفكري الذي اجتاح فترته باستخدامه مجموعة من الثوابت الفكرية الماخوذة من السلف كما جرت العادة المطبقة في الامور الدينية , مع الاطلاع البسيط على عناوين تساعده في فهم عام و شامل للمدرسة التي يواجهها . ان شحة المعلومات التي كان يمتلكها الصدر بخصوص الفلسفة المادية و بغض النظر عن اسبابها كانت ملحوظة بشكل جلي من خلال من ناقشهم في كتابه و العناوين التي استخدمها , فنجم عن ذلك افتقاره للحس النقدي الذي يكفي لاسقاط هذه المدرسة , فأنت لا تستطيع ان تجمع البساطة في الطرح مع التفنيد القاطع , و لا الشحة المعرفية مع الحكم الكامل على مدرسة ذات ابعاد فكرية متجددة . و لايضاح مختصر لهاتين النقطتين –قلة المصادر المتوفرة و عدم تناسب المواجهة نظرياً – نجد الصدر قد اعتمد على مقولات و نصوص من قادة الفلسفة (مثل لينين و ستالين) اكثر من مؤسسيها (مثل ماركس و انجلز) باستثناء اعتماده الكبير على كتاب انجلز “ضد دوهرنك” الذي بين فيه البنية الماركسية الاولية و مناحيها , الا ان ذلك ليس بكافٍ لو اردنا تحطيم مدرسة فلسفية احتلت العالم باجمعه , و خير دليل على ذلك نرى الصدر يشيد دوماً بالمسألة الميتافيزيقية و كأنها الهدف الاول و الاخير لدى الفلسفة الماركسية اذ يقول بذلك رداً على أنجلز :
“ولو كان (أنجلز) قد عرف النظرية الميتافيزيقية في المعرفة معرفة دقيقة , و فهم ما تعني من الحقيقة المطلقة , لما حاول أن يوجه مثل هذا النقد اليها” (ص222)
و بالرغم اننا لا ندرك ان كان محمد الصدر قبل كتابة كتابه هذا قد اطلع على كتاب اخر لِأنجلز و هو “مبادئ الشيوعية” ام لا , الا اننا مدركين انه يحمل نفس الاتهام الذي اتهم به أنجلز بجهله للفلسفة الماركسية بخصوص الجانب الديني , اذ لم ترى الماركسية – و خصوصاً من مؤسسيها – حاجة لان تكون الميتافيزيقية كافية او مبدأ فريد لهدم الاديان في كل العالم و انتهاء مسيرتها , بل كانت تنظر لها بانها ستزول وفق المراحل التطورية البشرية حتى وان لم يسعوا لاسقاط الفكر الميتافيزيقي كما صرح أنجلز في “مبادئ الشيوعية” :
“كانت كل الاديان الى حد اليوم تعبير لتطور المراحل التاريخية لشعوب مفردة أو مجتمعة . لكن الشيوعية هي مرحلة التطور التاريخي الذي يجعل كل الاديان الموجودة سطحية و تؤدي الى اضمحلالها.” (مبادئ الشيوعية , ص37)
ننتهي بذلك بتلخيص الجوانب التي تمثلت بالبنية النظرية لفلسفة الصدر , و اهم هذه الجوانب الايجابية هي الاستحداث النظري الذي بنته فلسفة الصدر , و الذي بدوره تمثل باعادة الهيكلة النظرية و جعلها تتناسب وطبيعة المجتمع الذي عاصره الذي كان على اطلاع مستمر , فساهم بعرض الراي الاسلامي و فلسفته بشكل بسيط و سطحي نسبياً بعيد عن التركيبات اللفظية المعقدة مراعي عمق الفكرة و حجمها . اما التداعيات السلبية التي نجمت من قلة الاطلاع للمدرسة التي سعي لتفنيدها هو ان هذا الاستحداث قد غاب فيه التجديد الفعلي – فالتجديد الذي نقصده موضوعي اما الاستحداث اسلوبي – و رسم هذا التجديد المصطنع من خلال اعادة تدوير الكلام بشكل يناسب الواقع التاريخي للكاتب , و لم يتم اتباع سوى استراتيجية النقد و التفنيد بدل الشرح و المواجهة و المقارنة و التي تلتزم باسقاط الفكرة المقابلة لبقاء الفكرة المملوكة , فنرى الاسلوب الغالب اتباعه مبني على قاعدة (أقتباس – شرحه – تفنيده) و ليس على طرح المنظومة الفلسفية للموضوع من نواحيه المتعددة بشكل يليق بما وصلت له هذه المدرسة و ان كانت على خطاُ على الاقل , الا ان الصدر اختار الشارع المسلم و راهن على ثقته كالعادة بدل التمحيص و التحليل العميق لها . و ننتهي بالقول هنا بالاعتراف بمدى نجاح الصدر لهيكلة و تأسيس النظرية الاسلامية على ركام ما هدمه – او ما ثلمه – من صرح المدرسة الماركسية , لأن الجميع مدرك بان هذه النظرية و المحاولة و الكتاب لما وجد يوماً لولا وجود هذا التيار المضاد , و لا وسيلة افضل لانهائه ان لم يحل الدين و نواحيه مكانه .