الجزء الثاني : الفلسفة الاسلامية و هيكلتها
كتب : امجد حميد
غالباً ما تنطوي الفلسفة على الطابع الانساني الشامل و البعيد عن عقيدة دينية محددة للصراع التاريخي بين العقل و التدين , بالرغم من ان الفكر تتعدد اشكاله في الاديان أساساً بدون ملاحظة انه لون من الوان الفلسفة . و لم يتم استحداث مفهوم الفلسفة الدينية و هيكلتها الا حديثاً لاقتضاء الحاجة التبريرية من الجانب المسيحي و للتوسع الثقافي الذي حصل عليه الجانب الاسلامي , مما ساهم في المجموعتين بوضع قوالب فكرية فلسفية تلائم و طبيعة النظم و المعطيات المفروضة في الدين المقصود اصحابه فيه . على الجانب الاخر , ادركنا فيما بعد ان هذه المحاولات الدينية ايضاً لم تلتزم بقوالبها و ثارت حفيظتها من قبل صناعها كون ان الفكر و الجهل لم يكونا منذ الخليقة اصحاباً يتآلفون في جمجمة احفاد النيدرتالية , فخلق بذلك نظريات و اكتشافات فكرية و فلسفية كانت و ما زالت فضلاً على من كفروا بدين من تفضّل عليهم بالفكرة المستمدة من دين الفيلسوف من الاساس , بل ان الفيلسوف المرتبط بعقيدته الدينية غير مدرك من الاساس حجم الطفرة الفكرية التي حققها بقدر ما يدركها الفلاسفة المتحررون اصلاً . هذا ما يجعل فهم الفلسفة الاسلامية من الناحية التاريخية و الهيكلية مهمة بشكل اكثر مما يتوقعه القارئ , لذا فعلينا ان نتكلم تدريجياً عن ما انتجته هذه العقيدة الدينية للعالم و ما بقي منها و ما زال.
ان الطابع الذي يشكل الفلسفة الدينية الاسلامية بشكل عام و الفلاسفة المسلمين – بشقيهم المتدين و المتحرر – بشكل خاص ينبع من جذرين جوهريين في تشكيله : الطبيعة الجغرافية و الروحية الدينية , و هذان الجذران يمثلان قطبين مهمين في كل فلسفة اسلامية تقريباً و القديمة خصوصاً . اذ ما نقصد بالطبيعة الجغرافية هو طبيعة التأثيرات الفكرية و العقائدية التي اثرت بشكل مباشر و غير مباشر على هيكلة الفلسفة الاسلامية بحسب البيئة التي نشأت و نمت فيها الفكرة و صاحبها , و يوضح هذا المحور طبيعة ارتباط هذه الفلسفة الاسلامية بالطبيعة الشرقية بشكل شبه تام اذ نرى المواضيع التي طغت عليها لم تخرج خارج دائرة اللاهوت و الحكمة و الموت و توجيه الفكر و غيرها من المواضيع احادية الجانب و المتمثلة بالأطر الدينية على وجه عام , و نزيد ايضاحنا على الجانب الشرقي و نقول ان من غير المبالغة ان نرى تأثير الطابع الشرقي و مواضيعه يصل الى شبه القارة الهندية و فيلسوفها بيدبا صاحب اشهر مجموعة قصصية و هي “كليلة و دمنة ” , فنحن نرى العمق الفلسفي الجبار و العظيم الخابئ وراء تلك القصص , الا اننا قد اكتسبنا المنهجية الفلسفية بطريقة غير مباشرة مما يحولها الى اكبر من نظرية او مجموعة نظريات فلسفية , يحولها على الشاكلة الدينية المتعارف عليها عند الجميع و هي المسلمات العقلية و البديهيات و الحكم التي يتم اكتسابها من خلال احداث سردية قصصية معينه . اما الروحية الدينية فهي محاولة رسم الفكر و صياغته بطريقة تصوفيه احادية الافق و لا تثير اي جدليات عقلية متشابكة , بل ان الجدليات ترتسم ضمن افق واحد و نسقية ثابته اذ لا يتم طرح محاور جدلية الا ليتم معالجتها بطريقة روحية ميتافيزيقية اكثر من فكرية نقدية ضمن اسس محددة . و الواقع ان هذا اللون من الهيكلة الفلسفية هو منهج متعارف عليه عند اغلب الاديان المشهورة لدرجة عدم اعتباره لوناً من الوان المحاولة للمساهمة في هذا العلم العظيم , كون ان اصحاب المعارف و ناشريها لم يكونوا يوماً يثيرون اسئلة كونية وجودية بقدر توفير معطيات و مسلمات بديهية روحية تجعل المرء متصالحاً مع دماغه بدل التفكير بالنظرية التشاؤمية – مثلاً – لشوبنهاور ان وجدت في زمنهم .
ينطوي على شكل الفلسفة الاسلامية الموجز اعلاه التسلسل التاريخي للفلسفة الاسلامية حسب الانتاجية الفلسفية و طبيعة الفلاسفة في عصرهم , و هذا التسلسل ينقسم لمرحلتين اولاهما الفلسفة الروحية الصوفية و الاخرى هي الفلسفة التنويرية الحداثوية , و قبل ان نغوص في فحوى كل سلسة منهما , يتوجب علينا فهم اسباب وجود كل واحدة و شكل مسيرها التاريخي . ان صيرورة النوع الاول من الفلسفة قد تم توضيح اسبابه اعلاه بشكل جلي اذ ينطوي وجوده على امرين : البيئة الشرقية الروحانية و المنهجية الدينية الميتافيزيقية , ما ساهم في تسهيل ظهور العديد من الفلاسفة المسلمين المتدينين و بنفس الوقت وضعوا نظريات فلسفية عظيمة لازال اثرها قائماً الى يومنا هذا , و امثال هؤلاء شمس التبريزي (اهم كتبه “انا و الرومي”) , جلال الدين الرومي (اهم كتبه “فيه ما فيه”) , ابو حامد الغزالي (اهم كتبه “تهافت الفلاسفة”) , محيي الدين بن عربي (اهم كتبه “الوصايا”) و غيرهم . ان اهم ما تميزت به نتاجاتهم الفكرية هو انها ترتبط بشكل مباشر بالقضايا الميتافيزيقية و مسالة اللاهوت و الحياة , بالرغم اننا نلتمس بعض النظريات و الجدليات الفلسفية و الفكرية التي تخلو من هذه الالوان و تناقش مواضيع تجريدية , الا ان مثل هذه المواضيع نجدها منحسرة عندهم في اطروحات ضيقة رغم غزارة معطياتها و ثروة معرفتها , بل على الرغم من ان الفلسفة التنويرية قد خرجت للعيان من خلال فلاسفتها الا ان ذلك لم ينهي وجود الفلسفة الروحية بشكل كامل قط , اذ استمر هذا اللون الفلسفي من القرن التاسع الى القرن السابع عشر , و لاحقاً سنناقش فلسفة الصدر التي تلتمس جزءاً من الروحية البسيطة رغم انتمائها للنوع الثاني.
تعتبر المرحلة الثانية من التسلسل التاريخي للفلسفة الاسلامية القفزة الفكرية التي تجاوزت حتى اوروبا على الصعيد التاريخي و المتمثلة بشكل اساسي بالفطر المعرفي التنويري , و ابرز الشخصيات التي تمثلت في هذا الجانب كانت ابو العلاء المعري (اهم كتبه “رسالة الغفران”) , صدر الدين الشيرازي( اهم كتبه “الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة”) , ابن سينا (أهم كتبه “النجاة في الحكمة المنطقية و الطبيعية و الالهية”) , ابو بكر الرازي (أهم كتبه “رسائل فلسفية”) , محمد الفارابي – و الملقب ارسطو الثاني – (أهم كتبه “اراء أهل المدينة الفاضلة و مضاداتها”) , ابن رشد (أهم كتبه “تهافت التهافت”) , ابن خلدون (اهم كتبه “المقدمة”) , محمد الطباطبائي (أهم كتبه “أصول الفلسفة و المنهج الواقعي”) , محمد باقر الصدر (أهم كتبه “فلسفتنا”) و غيرهم الكثير . تتمثل المميزات التي تمتلكها مجموعة هذا الجانب بانها لا تتناول المسائل الفلسفية على الطريقة التقليدية و الصوفية بقدر ما تتناولها بأسلوب نقدي فلسفي بحت , و لا يعني ذلك انهم لم يعتمدوا على الجانب الروحي او استخدام استراتيجية البديهيات و المسلمات العقلية لإثبات نظرياتهم الفلسفية , بل انهم لم يجعلوها الاولوية في ابحاثهم و نظرياتهم . و نزيدكم ادراكاً ايضاً بان ما يشترك به ابناء هذه الفئة مع التي قبلها هو وجود الطابع الروحاني ايضاً لكن الاولويات معكوسة اذ ان المسائل الميتافيزيقية تناقش المسلمات و البديهيات رغم انها – بالنسبة لهم – لا تحتاج الى هذا النقاش المطول عنها , و خير دليل على ذلك هو الانتاجات الفكرية العظيمة و ولادة الفلسفة التنويرية على يد ابو العلاء المعري , اذ سبق ايمانويل كانط –احد و اول المؤسسين للتنوير في اوروبا – بسبعة قرون حين نادى حصراً بوجوب شمول الفكر و ادواته على جميع جوانب الحياة و متطلباتها . هذا ما يولد احساس التقصير من الجانب الشرقي بشكل عام و الاسلامي بشكل خاص على عدم دعم و نشر هذه النظريات الى الان , لا لأجل المنافسة بحق الاسبقية الاكتشافية لنظرية او مجموعة نظريات , بل لتبيان كمية و حجم الارث الفكري و الفلسفي الذي طغت عليه الأيديولوجيات الاصولية المتجذرة بعقول العامة و لم يجد فرصة – بعكس الارث الغربي – ليسطع نوره و يطور اغصانه و يمتد عبر الاجيال , و خير دليل هو ابن رشد الذي لم تقدره المجتمعات العربية و حكوماتهم – لا في الماضي و لا الحاضر – بقدر ما اهتم الغرب لدراساته و نظرياته و افكاره . و لسنا بصدد الاطالة في هذا الموضوع كون البحث لا يرتبط به لدرجة الاسهاب فيه , لكن نوفر بين يديكم مصدراً ناقشه بشكل مفصل و هو كتاب “نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية” للكاتب الجزائري محمد اركون .
يتبين لنا بعد ايضاح اصناف الفلاسفة المسلمين حسب انتاجيتهم الفكرية و هيكلتها ان هناك مجموعة من الاسس تتناقل بين كل الفلاسفة بمختلف صنوفهم , و هذه الاسس تعتبر ثابتة سواء كان الفيلسوف صوفي او تنويري التنظير , اما الانتاجات الفكرية التي تتغير فهي دوماً ما تمتلك نفس هذه الاسس لكن يصب هذا التغيير على معطيات و اكتشافات عصر الفيلسوف و ليس لتوجيه البوصلة الى الميتافيزيقية و الله و دينه , وهذا ما نراه واضحاً في فلسفة الصدر في كتابه “فلسفتنا” الذي لا يمتلك من الوان التجديد و الحداثوية و المعاصرة سوى طريقة النقد و التحليل التي تواجه النظريات الفلسفية التي لم يتم نقدها و دحضها من قبل الفلاسفة و العلماء المسلمين كونها لم تكن موجودة او معروفة في زمنهم , و في هذا شرح كثير لاحقاً .
تتمثل الاسس الثابتة التي تعتبر السلسلة الموروثة التي يتمسك بها كل فيلسوف هي :
- مبدأ العلية (السببية)
- الميتافيزيقية حتمية الوجود
- البديهيات و المسلمات
و تشغل هذه الاسس كل عمل او انتاج فكري لأي فيلسوف اسلامي بشكل مطلق لان المحورية الفكرية – وان كانت متحررة – تدور حول العقيدة و اثباتها في النواحي المعرفية المتعددة , و بالرغم من وجود قضايا اخرى تم تناولها بشكل كبير الا انها لم تكن يوماً محوراً موضوعياً لدى الفلاسفة المسلمين , خصوصاً انهم كانوا يربطونها بشكل فرعي مع الاسس الثابتة المذكورة .
تبرز اهمية هذه الاسس في ارتباطها الوثيق في العقيدة الدينية لكل فيلسوف اسلامي , فمبدأ العلية يمثل اهم الأسلحة المعرفية و العقلية لدى اي شخص ذا عقيدة دينية , اذ يمثل سقوطه سقوط الفكرة الالهية و بهذا ينتهي وجود الدين و اساسه , و هذا الشيء ملحوظ اذ نرى تعدد اشكال النظريات الفلسفية و مدارسها و بالمقابل نرى ان الفلاسفة المسلمين – و اخرهم محمد الصدر – واجهوا كل هذه المدارس بسلاح العلية , لان بدونه من المستحيل اثبات ان هذا الكون من صانع فائق القدرات و القوة . كذلك الجانب الميتافيزيقي قد ظهرت اهميته في الآونة الاخيرة مع ظهور المدرسة المادية الماركسية و التي تمثلت عدواً للفكر الديني الميتافيزيقي , ما اظهر الحاجة لمراجعة النصوص الفلسفية الاسلامية و اعادة تداولها و تطوير صياغتها ثانية من قبل المجتمعات الدينية بعد ان نسوها , و لم يقف الامر عند تلك النقطة بل صيغت محاولات حقيقية لمواجهة هذا التحدي اللاديني الجديد الذي يحاول اسقاط الميتافيزيقية , و احد اكبر و ابرز هذه المحاولات هو كتاب “فلسفتنا” الذي نتناوله الان . اما الاساس الثالث فهو يمثل عمود الاساسين السابقين , لأننا حتى و ان اثبتنا مراراً و تكراراً على مر العصور ان مبدأ العلية و البعد الميتافيزيقي حتميان الوجود لن يكفي لأنهاء الصراعات و المواجهات امام المدارس الفلسفية و خصوصاً الحديثة , فتحتاج هذه الاعتقادات ان تتحول الى مسلمات و بديهيات و قواعد منطقية غير قابلة للتجزئة و الاستثناءات و الدحض ابداً , و هذه تعتبر احد اهم الاوراق التي يستخدمها الفلاسفة المسلمين و يعمدون الى اثباتها و ترسيخها في فلسفتهم كي يتم بذلك دحض المدارس الفلسفية الاخرى بصورة سهلة و مبسطة , ويجدر بنا ذكر حقيقة وجود هذا الاساس في مدارس فلسفية اخرى – غير متمثلة بدين معين مثل أرسطو – لكن لم تكن بذلك الحجم المهم لدى حامليها , اذ قاموا بمناقشة وجود فكرة المسلمات و قد وصلت بعض المدارس مثل المدرسة الماركسية بعدم وجود او حاجة للمسلمات البديهية في الحياة , اي انها لم تكن تحمل اغراضاً قدسية او عقائدية كما في الفلسفة الاسلامية .
ما نقصده بالأسس او المواضيع المتغيرة في الفلسفة الاسلامية : النظريات و المسائل التي قلما تظهر او يتم مناقشتها من قبل الفلاسفة المسلمين تاريخياً , و ان تم ظهورها فهي ببساطة لأجل اغراض و اهداف كانت تخص النقطة الزمنية التي فيها او ابداع من عقل فيلسوف , فما خص النقطة الزمنية الانية لدى اي فيلسوف اسلامي فهو ابتكار منظومة فلسفية من نفس الاسس التي يؤمن بها و بدون تعديلات او تطور فكري نسبياً لمواجهة فلسفة معينة تهدد كيانه , اما ان كان الهدف هو الابداع فلا يكون ذا غايات تاريخية بقدر ما تكون معرفية و تنويرية تطويرية لماهية الفلسفة الاسلامية, و خير دليل هو الابداعات الفكرية التي قدمها محمد الفارابي – كنظرية العقول العشرة و تطوير المدينة الافلاطونية الفاضلة بعد ان كانت مدينة مثالية ساكنة – اذ تمثل احد الادلة على التنوير و بصماته في الفكر الاسلامي , و انتج بدوره من النظريات الفلسفية ما يوازي كمية النظريات الفلسفية الغربية التي نعرفها حالياً . لذا على الرغم من صعوبة تغطية كل المواضيع المتشعبة و التي لا تمثل اساساً موضوعياً لكل فيلسوف مسلم يتداوله , الا اننا سنذكر اهم موضوعين متغيرين و ليسا متداولين الا لأهداف تاريخية غالباً , و هذان الموضوعان هما : نظرية المعرفة و فكرة الدولة الاسلامية .
تبرز اهمية هذان الموضوعان من الناحية التاريخية للفلسفة الاسلامية في جوانب الصراع الدائم لتطور الفكر الانساني عبر السنوات , فلا احد غافل عن كمية التغيرات الفكرية التي طرأت على الفكر الانساني في القرون الاخيرة و كمية التخلص الهائل لقواعد كثيرة لطالما عهدها الانسان و ابقاها منهجاً له دوماَ , و اكبر دليل هو اهتمام الفيلسوف محمد الصدر في هذين الموضوعين في كتابه هذا . ان ظهور نظرية المعرفة كأحد النظريات الفلسفية لفيلسوف اسلامي معين يدل على وجود ازمة و صراع فكري – سواء على الجانب الاقليمي او العالمي – يواجه بشكل مباشر التيارات الدينية بشكل عام و الاسلامية بشكل خاص , ما يشكل اهمية وجودية لإعادة تناول و تجديد نظرية المعرفة من الجانب الاسلامي دوماً . اما بالنسبة لفكرة الدولة فهي على الرغم من تداولها بشكل فلسفي – كالفارابي كما ذكرنا اعلاه – او غير فلسفي – ككتاب “الدولة الاسلامية” لروح الله الخميني و الذي انتهج فيه منهجاً سياسياً و ليس منهجاً فكرياً – فهي تبقى نظرية فلسفية و سياسية يتحدد ظهورها حسب الموقف الاجتماعي و طبيعة التطورات و المعطيات المتوفرة التي يعيشها , لذا فبروز هاتين الفكرتين نراه بشكل واضح و جلي في كتاب “فلسفتنا” كون ان الكتاب قد تمت كتابته في فترة متوترة بشكل اقليمي و عالمي , ما نتج عن حاجة ملحة لتبيان الموقف الديني و اشباع رغبات الشارع المسلم لكي يمتلك ذخيرة معرفية يواجه بها من يختلفون فكرياً و دينياً عنه .
بعد تفكيك الهيكلية التاريخية للفلسفة الاسلامية قد بان بشكل جلي ان الاخيرة لم تكن تسري في خط مستقيم او ذات وجه واحد , بل كانت تحمل الواناً و مناحي فكرية متعددة و متنوعة مما جعل تحقيق التحرر الفكري حقيقياً و ممكناً . كما ثبت ان هذا التنوع ساعد في خلق غايات متعددة ساهمت بشكل مباشر لخلق صورة ايجابية و غير نمطية مغلقة عن المرونة الكبيرة التي تمتلكها الفلسفة الاسلامية للخروج عن التعصب الديني الذي تفرضه النصوص الدينية و عدم النقاش و ان كان لمساحات ضيقة او ضروريات تحليلية معينة , و هذه الغايات غالباً ما كانت موجهة لأجل الدين حتى وان كانت تمثل سيراً فكرياً فلسفياً بحتاً , الا ان ذلك لم يمنع من ان تكون ذات ابداع عظيم و نسق قويم . بالرغم من ذلك لم تكن هذه الغايات المتعددة سوى غايات ثانوية و مرتبطة غالب الامر بالفترة الزمنية التي تحويها , الا ان هناك دوماً غاية مثلى تسعى لها كل نظرية فلسفية اسلامية و تؤسس لها جذراً يستند عليه كل انتاج فلسفي اسلامي على الدوام , و من خلال هذه الغاية المثلى تنبع كل الغايات الثانوية و تبرر وجودها من خلالها . هذه الغاية الجوهرية و المحورية ببساطة هي بصمة الوجود الديني في العلوم سواء كانت طبيعية او انسانية , و العلوم الانسانية هي الاولوية دوماً كون الطبيعية بمقاييسهم –وسيحاول الصدر لاحقاً التأكيد على هذه النظرية –لا يؤثر او يزيح شيئاً من الوجود الديني ابداً , و لكي تكون هناك بصمة فعلية في الدين فمن المؤكد ان تتكامل في ثناياها و تبرز في ظهورها الشكل المثالي او القريب الى المثالية , لذلك فان الغايات التي تنشأ و ان لم تكن لأجل الاحياء الديني من قبل الفيلسوف و لغرض تنويري بحت , فهو يقوم لا ارادياً بترسيخ و اثبات الكثير من الاسس الدينية التي تحمل طابعاً فكرياً و فلسفياً حتى و ان كان اهل ملته ضده , و خير دليل هو تكفير أبن رشد من قبل اهل زمانه لنظريته بقضية القوانين الطبيعية للعالم كأول محاولة لإيضاح المبادئ العقلية و الطبيعية التي من اساسها يتم الاستدلال على اللاهوتية و الاديان بشكل منفصل عن ماهية القوانين . هكذا نرى مدى عمق الحس الديني لدى الافراد الذي يدفعهم دوماً بشكل مباشر او غير مباشر لدعمه و احيائه من خلال هذا العلم حتى وان تم تكفيرهم و مواجهتهم فيه , لان ما يدفعنا للتميز بين الفيلسوف المسلم و غيره هو ان الاول من المستحيل ان يتفق او يوافق او يصنع نظرية او منظومة فلسفية لا تتوافق و طبيعة العقيدة التي يؤمن بها و ان كان بتبريرات عقلية شخصية تسمح له بالخروج عن المألوف و عن العقيدة الدينية بدون ان يشتعل عنده احساس الذنب و الإثم .
هكذا تم اكتشاف الغاية المثلى التي تمثل النواة الاساسية لتشكيل الهيكلة الاسلامية , و التي لا تخلو اي مسالة فلسفية ذات ارتباط ديني او اسلامي سواء من قبل الفيلسوف او من فلسفته التي يسعى لتأسيسها . لكن اظهار الغاية المثلى بشكلها النقي لا يظهر ارتباطاتها و مدى تأثيراتها التي تصنعها في عقلية الفيلسوف الاسلامي و الدافع الذي يجعله يبني نظريته الفلسفية عليها , ذلك ما يوجب علينا ايضاح اهم الاهداف التي تنبع من هذه الغاية المثلى بشكل جلي . ان ماهية هذه الغاية المثلى تؤدي دوماً الى مفترق طرق لطريقين لا ثالث لهما : وضع النظرية الفلسفية لهدف معرفي تطويري لا زمكاني (اي ان النظرية لا تمثل الوقائع التاريخية نسبياً و التي وقعت في زمان و مكان الفيلسوف) , وضع النظرية الفلسفية لهدف سياسي و اجتماعي و زمكاني (اي ان النظرية الفلسفية تمثل الوقائع التاريخية نسبياً و التي وقعت في زمان و مكان الفيلسوف) , و قد لا نحتاج لذكر امثلة على هذين الهدفين لكثرة وضوحهن الا اننا سنشير الى مثال لكل واحد و نبين ارتباطهم المباشر بجوهر الغاية المثلى , فرؤية المواجهة الحادة بين ابو حامد الغزالي في كتابه “التهافت” و نظيره ابن رشد في كتابه “تهافت التهافت” تبين مدى عظمة و رقي الهدف المعرفي و ان كان ذا غاية دينية عقائدية , و يزيد من الامر متعة حين نلاحظ ان الاول يختلف عن الثاني حتى في المدرسة التي ينتمون اليها , فالأول من المدرسة اللاهوتية الصوفية و الثاني من المدرسة التنويرية التحررية , الا ان ذلك لم يمنع وجود منافسة علمية راقية تنويرية بينهم تخضع لأسس فلسفية رصينة و ان كانت تحمل غاية مثلى تخص الدين . و كتاب محمد باقر الصدر “فلسفتنا” الذي نتناوله في بحثتنا هو احد المؤشرات و العلامات التي تظهر الجانب الاخر من عملة الغاية المثلى , فهو على الرغم من اشتراكه النسبي في التطوير المعرفي و الفلسفي للفلسفة الاسلامية , الا ان المسعى في ذاته كان لغرض تأسيس الية تحارب مداً فكرياً حديث الوجود و يحاول محي وجود الدين من جهة , و لأنشاء منظومة فكرية تبني دولة ذات اعمدة دينية مستقيمة و مثل عليا لا تسقط من جهة اخرى , و ذلك ما يجعلنا نحدد بصورة دقيقة المساحة التي سنناقش بها هذا الكتاب و نحلله من خلالها مع التماس بعض المسائل والقضايا التي ترتبط بالهدف الاول .
هذه الصورة الكاملة للشكل الهيكلي للفلسفة الاسلامية و التي رسمنا معالمها بصورة مفصلة قد شكلت في ذهن المتلقي تساؤل نهائي يثير في نفسه الشكوك لحاجة وجود الفلسفة الاسلامية من الاساس , و هذا التساؤل هو عن ماهية هذه الفلسفة و هل هي تداولية الوجود ام ان الضرورة هي ما تحدد وجودها , و هذا المفترض ما ينتهي له عقل المتلقي بعد تبيان السلسلة التاريخية و الاسس التي بنيت عليها الفلسفة و يحتاج بصورة ملحه الى جواب له . و الاجابة على هذه المسألة ببساطة هو ان اغلب المراحل التي مرت بها الفلسفة الاسلامية كانت تثبت و تتمسك بمبدأ المنهجية التداولية لهذا العلم , كون ان هذا العلم بالنسبة لحامليه هو احد العلوم الاساسية التي يجب الاهتمام بها و تناولها على وفق مبادئ و قواعد مطابقة او متمثلة بأطر دينية اسلامية و ان اختلفت الطرق , اما بعض المراحل التاريخية – و خصوصاً القرن الاخير من الالفية الثانية – اندثر الاهتمام و تسليط الضوء على هذا العلم المثير اذ لم نرى مواجهة حقيقية لتيار فلسفي حديث و مؤثر مثل التيار الماركسي الا في سنة 1959 م على يد محمد باقر الصدر و كتابه “فلسفتنا” , في تلك اللحظات التي اصبح مصير وجود تيار فلسفي اسلامي يراعي الفكر الديني و يثبته و يواجه التيارات الجديدة امراً ضرورياً , فتحولت الهيكلة الفلسفية الاسلامية من المنهجية التداولية الى الضرورة الوجودية . و قد تظهر في بعض المسائل ملامسة للحاجة الاولى او انها تمثل امتداد للمنهجية التداولية للفلسفة الاسلامية , الا اننا سنوضح بعد شرحنا لهذه المسائل في هذا البحث في المستقبل ان هذه المسائل لم يكن توجيهها الا مفروضاً على كاتبها لكي يتمكن من خلالها ايضاح و اثبات النظرية الفلسفية الاسلامية و دحض التيار المهاجم . بهذا نختم الجانب التوضيحي لهيكلة الفلسفة الاسلامية كي يتمكن المتلقي بعدها من فهم و استيعاب الاطر التي سنتناولها و يجنب نفسه سوء الفهم و اللبس في المسائل التي سنفككها و نتعرف على المحرك و الدافع الاساسي الذي ينميها و يحركها في فلسفة الصدر و كتابه “فلسفتنا” عموماً .