بقلم : محسن محمد تقي العراقي
على اعتاب قارب مهلهل تعثر العابرون في طريق معبد بأسفلت كوابيسهم . رتَل المهاجرين ينساب في جوفه هرباُ من حروب مزقت أوطانهم .جوفٌ رطب, ارضية باردة , وجدران هرئة رُسم عليها ارقام وقلوب وامنيات مبعثرة . حشرت املُ جسدها بين نسوة غريبات. يعلو الصراخ كلما ترنح القارب ؛ تمتمات وبسملات تنبو من شفاه راجفة . في المساء خيّم سكون حاد يشبه ذات السكون الذي تشرأب منه الحواس في مقابر مقفرة , اقعت ام عزيز الريفية من الجزائرَ والتي جاوزت عامها الستين. قرب امل العراقية والتي لها عمر الحروب والحصارات جمع الاثنتان تعارف جاوز النظرات حد البوح تشوقت امل لطفولتها فبدأت حديثها : كان عمري عشر سنوات بيضاء كجارية رومانية والجارية كما تعلمين تجري بين مثيلاتها تهوى اللعب مع صغيرات الحي . حي مقفل يشبه اروقة بيت صغير غلفته الظلمة. الاماني الصغيرة القابعة في صدغي الهش تتلاشى كلما داهمني الشعور بحتمية المغادرة يوما ما الى بيت يجمعني بزوج انجب اطفالا يملؤن الدنيا صخبا. ام عزيز وجدت سلوتها بمواصلة الاستماع , وبغفلة تبعها صوت مسعور؛ اغلق المهربون كوّة في سقف المركب كانت تتسرب منها الحياة فماعاد احد يفرق بين ليل او نهار. القارب ينحدر الى قلب البحر مترنحا والانفاس الزنخة تضمخ الحيز الضيق ولازالت امل تواصل الحديث:كنت طفلة لا تعرف الهدوء في بيت تتوسطه باحة كبيرة واعمدة خشبية تستند عليها سقوف تضلل واجهات الغرف… ام عزيز تلتهم امل بنظرات ملؤها الحنو ابعد عنها ذعر المهاجرين كلما ارتقى المركب موجة عالية , امل سألت ام عزيز:
_اراكِ تعبتِ يا ام عزيز ؟ فردت الاخرى (بشرود): لا…. لا حسب كلماتك ذكرتني بالوطن والاحبة
اكملي ماذا حدث بعد ذلك. عادت امل من جديد (مشحونة الذاكرة): بلغت اربعة عشر ربيعا , اشتد عودي وبانت اشياء من لدانة جسدي وتفجر من صدري تفاحتان نافرتان زادتا من حسن انوثتي , كانت امي تغرق في لون عيناي العسليتين وجدتي تقول: انني الهب القلوب بسياط الحسن , تزوجتُ ابن عمي ولم نرزق بطفل يغلق نوافذ السأم والضجر. كنا نتقلب بين فاقة ومشقة واحباطات تغذيها رتابة سنون ثقيلة دون ان نحضى بعام لانسمع فيه طبولا للحرب . الحيوانات الداجنة خففن عني ثقل الايام الطويلة , حيث الصمت القاتل المكبل بالحرمان ايام الفاقة كنت أهب للقطة حصتي من الغذاء فأسعد كلما وجدتها سعيدة تلعق قوائمها وتتسع حدقات عينيها بالشكر والعرفان. كنت في عالم رائع عرفت فيه الكثير عن مزايا وطباع القطط , سرها يكمن في اتقاد عيونها ومن موائها عرفت ان لكل قط بصمة لايشترك فيها اثنان وخبرت اي الاطعمة تفضل . كنت مسالمة الطبع غير متطلبة رغم اني اريد ما تريده اي فتاة لكني طوعت غريزة الامومة وربطتها بعقال الايمان , كان زوجي يستشعر معاناتي وحاول مرارا ان يضعني في دوامة عمل او هواية تشغلني لكني ورثت عن جدتي الشغف بخياطة الاقمشة المنزلية واعداد الوجبات الجديدة كلما تيسرت حالنا .كان البيت دوحتي وكفاف عيشي وكان الشعور ببصيص النور يعاودني فتتقد في دواخلي جذوة امل بأني لابد من ان ارزق بطفل . ولا اخفيك يا ام عزيز.. اني ركبت مركبا صعبا وتأقلمت وسط العيون الزاجرة وهي تلهب الروح بسياط الاسئلة الجارحة عدا الفضول عن سبب عدم الانجاب . تعكر وجه ام عزيز كأن اسياخا من نار اخترقت قلبها تلفعت بعبائتها ثم تسللت اصابعها لتخفي خصلة شعر تدلت على جبينها لم تكن ام عزيز سوى حصيلة القهر في بلد طوقه الفقر, عينان واسعتان وبشرة سمراء بلون الارض وانف صغير توسط صحراء وجهها المترع بالجفاف. ام عزيز مسحت بعضا من دموع امل ترنحت السفينةُُ القبرَ , تصارخ الجميع حتى تقلصت اوداج رقابهم لصفعات البحر وهي ترتد على الرؤؤس ولا مهرب لأم عزيز الا في الخدر على صوت امل وهي تحكي.. اكملي يا امل كلماتك تبعث السكينة في النفوس. لم تتعب اذ تتحدث فهي تفرغ ما شحنتها به السنون من غم وهم: ذات صباح افقت على الم غريب في احشائي , كابوس يتوعدني بمرض لابرأ منه حالي المتقلقلة بين الالم الممض والخشية من داء مرعب ضل يقض مضجعي فمن يقضي وطرا من عمره بين اقارب مرضى ينثلم في ذاته الامل بالخلاص من العلل الغريبة والنوبات القلبية المتكررة عدا الامراض العضال التي حلت وحشا خبيثا على اجسادهم .قال الطبيب الذي ساورته الشكوك من تكرار ذات الالم : يجب حضورك للكشف المركّز فكانت النتيجة اني حامل .لم اصدق ذلك يا ام عزيز ,حتى خاطبته بذهول ممزوج بالفرح : أيعقل يادكتور بعد ستة عشر عاما من الانتظار؟! واسترسلت : لقد نسيت هذا الامر لم يعد ضمن اولوياتي تاكد يادكتور لعلك واهم. هللت ام عزيز وانفرجت اساريرها ببسمة عريضة شقت وجهها .كانت الدموع تتفجر من عيون امل تفجر المياه من عيون الارض كشفت وهن الخيط الذي يفصلها بين اليأس والامل .أحتضنتها ام عزيز بشغف وصارتا تنشجان بخفوت مؤلم. امل تشعر بالامال تكبر كلما كبر بطنها ركلات الجنين تسعدها تحتفل بجنينها ساعات طوال تسمعه الموسيقا والقرأن الكريم . تحاوره ويدها تتحسس بطنها وكأنه طائر يرقص بين راحتيها .لم تتأخر في تجهيز كل احتياجاته فبين اليوم وموعد التشريف شهر من العمل المتواصل لدنيا جديدة وسط النار والدمار وانهار الدم . اقترب الموعد داهمها المخاض .وعلى حين غرة بدأ القارب يتصدعَ يَصدر اصوات تشققٍ ورنين ينبثق من الجدران حتى انشطر من منتصفه فانفلق الماء من جوف القارب كما تنفلق الصهارة من جوف بركان . طفت الاجساد بعدما تفتحت الابواب اثر الضغط وتناثر الجميع كل تمسّك بما طالت يداه بعد ساعة سكن كل شيء طفت الجثث . بعضٌ قذفه التيار بعيدا والاصوات المخنوقة تعلو من بعيد متوسلة المجهول .فمنهم من قضى نحبه ومنهم من تلقفه العابرون وفي احدى الرسائل…….
الى ولدي علي:
حتى اخر لحظة كانت امك متشبثة بي وحال انشطار المركب انفصلت الايادي عن بعضها لم نكن نريد سوى شهقة , كنا نختنق بعد ساعة من التشبث بقطعة خشب كبيرة انتشلتنا سفينة بترول , اواسيك لغرق امك التي الهمتني دفقة امل ولازلت ابحث عنك بعد ان عرفت انها انجبتك بعد ستة عشر عاما من الانتظار. بني اينما تكون ساكون امك فتعال الي .(ام عزيز/ جمهورية فرنسا/ نوتردام)
ورد عن بعض المصادر ان الرسالة نامت في ادراج البريد بين باريس وبغداد سنين طوال ولازال البحث جار عن علي.بعضهم قال ان جسده ذاب اثر انفجار سيارة ملغمة, لكن اخبارا رجحت ان رأسه فصل عن جسده في حفلة مجون داعشية. لكن بصيص امل يتوارد بين اهل المدينة مفاده( ان طفلا ملطخ الوجه ببقع سود اء يرتدي اسمالا يخرج فجر كل يوم تحف به مجاميع من القطط يبحثون في الازبال عن كسرة خبز) .