كتب : علاء صابر الموسوي ـ العراق
تختلف نظرة الإسلام وفهمه للنشاطات والمواقف الانسانية، وتعامله مع الأشياء والموضوعات المادية، عن فهم وتقويم وتعامل النظريات والمذاهب الإجتماعية المختلفة، كالشيوعية والرأسمالية والاشتراكية….الخ، كما تفترق نظرته عن باقي الفلسفات، ونظريات الأخلاق، وعلم النفس، والاجتماع المتمثلة في الاتجاهات والمدارس المتعددة والمفاهيم الحضارية، والنظريات التفسيرية التي دفعت بالفرد والمجتمع إلى حالة من الاضطراب واختلال التوازن النفسي والسلوكي، بسبب ماقدمته من تفسير لمفهوم اللذة والألم …
وتقويم السلوك والحرية، فأنعكس هذا التفسير على أوضاع الأنسان السياسية والاقتصادية والسلوكية، الفردية والاجتماعية… وصار الأفراط والتفريط، والأسراف والعبث، ظاهرة حضارية مدُمرة ، تعبث بصحة الإنسان الجسدية والنفسية، وتعصف بالثروة ونظام المجتمع واستقرار الحياة… فلا شيء يخضع في سلوك هذا الإنسان المادي إلى مقياس، أو يوضع في ميزان قيمي أو سلوكي … بعد أن جعل اللذة غاية ، والحرية غير الملتزمة أساسا ومنطلقاً للسلوك البشري … للتعبير عن محتوى الذات، والبحث عن اللذة بشتى صورها ووسائل تحصيلها … فضاعت مع هذا الفهم والتفسير كل القيم والمقاييس المنظمة للسلوك الانساني … واضطربت معادلات الحياة … وسادت المجتمع حالة من الفوضى والإضطراب بشكل جعل من سلوك الانسان ونزعاته كماً مهملاً لايخضع إلى قياس… ولايقف في كفة ميزان، فأنتجت الحضارة المادية إنسانا عابثا مختل التوازن، وذا شخصية شهوانية هلعة… وبشكل يسمح للدارس والمؤرخ أن يسمي الحضارة المادية المعاصرة:( حضارة العبث والضياع) … فالإنسان في هذه الحضارة يمارس شتى أنماط النشاط والحياة، بعيدا عن قواعد الاعتدال والاستقامة… سواء في ممارسته للنشاط الغريزي والسلوك الإجتماعي … كتناول الطعام والشراب، وممارسة الجنس والمتع واللذات وجمع الثروة والمال وإستعمال السلطة….الخ …أو في التعبير عن انفعالاته وأحاسيسه … كالحب والغضب، والرضى والسخط والكراهية … فهو في كل الممارسات تحول إلى إنسان عابث، مختل التوازن، بعد أن ماتت في أعماقه ملكة الاستقامة النفسية، وغابت عن دنياه ضوابط الأخلاق والقيم الروحية.
أما الاسلام … فلكي ينقذ الإنسان من مثل هذا التيار المادي الهلع … راح يخضع السلوك والنوازع والاتجاهات النفسية والعلاقات الإجتماعية لقاعدة الضبط والتنظيم الكوني العام….
فالإسلام يدخل كل سلوك الإنسان وعلاقاته في معادلات حسابية موزونة … تعتمد على بناء نفسي وأخلاقي محكم، كما تعتمد على الضبط القانوني، والتوجيه الإجتماعي، والمتمثل في العرف والرأي العام الاسلامي.
وقد جاءت الآيات القرآنية والمفاهيم والنصوص الإسلامية العديدة تؤكد على هذا المبدأ، وتصوغ منه قانونا وقاعدة للحياة:( قاعدة الضبط والموازنة والاعتدال).
ولعل أدق ماورد في هذا الموضوع، هو الخطاب الالهي الموجه لقدوة البشرية محمد صل الله عليه واله وسلم، والذي نصه:( فَاستَقم كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطغُوا إِنهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصيِرُ). هود/ ١١٢….
وفي موارد قرآنية أخرى، نجد وصفا دقيقا، وتحديدا واضحا لهذا المبدا الأساسي، في أحكام الشريعة وقيمها … نذكر منها على سبيل المثال قوله تعالى،وهو بتحدث عن سلوك الشخصية الإسلامية وكيفية تعاملها مع المال والثروة والأشياء انفاقا واستهلاكا..نذكر قوله تعالى:( وَالذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَم يُسرِفُوا وَلَم يَقترُوا وَكانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَاماً). الفرقان/٦٧ …
( وَلَا تَجعَل يَدَكَ مَغلُولَةً إلى عُنِقكَ وَلَا تَبسُطهَا كُل البَسطِ فَتَقعُدَ مَلُوماً محسُوراً). الأسراء/٢٩ …
وغيرها من الآيات الكثير، ولم يتوقف القرآن نحو الاعتدال والتخلص من الاسراف والعبث عند حد التعامل مع الاشياء المادية بل وشمل توجيهات الحالات النفسية والانفعالية عند الانسان … لتنظيم الانفعال، وضبط موازنة التحرك النفسي كقوله تعالى: (وَإن عَاقَبتُم فعاقبوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهوَ خَيرُ لِلصابِرِينَ). النحل/١٢٦ … (لِكَيلاَ تَأسَوا عَلَى مَا فَاتَكُم وَلاَ تَفرَحُوا بِمَا آتَاكُم وَالله لاَ يُحِبُ كُلَ مُختَال فَخُور) الحديد/ ٢٣.
( وَلاَ تَقتُلُوا النفسَ التِي حَرمَ الله إلَا بِالحَق وَمَن قُتِلَ مظلُوماً فَقَد جَعَلنَا لِوَلِيهِ سُلطَاناً فَلاَ يُسرِف فِي القَتلِ إنهُ كانَ منصورا). الاسراء/٣٣ .وهكذا، والامثلة كثيرة على الدعوة إلى الاعتدال والتوازن تشاهد في الكتاب والسنة وفي الدراسات الأخلاقية والسلوكية والتشريعية التي أقامها المسلمون حول قواعد الإسلام وأصوله.
ولقد تجاهلت ظاهرة الاعتدال والتوازن في كل تشريع ومفهوم في الإسلام … تجلت في الموازنة بين شؤون الحياة والآخرة كما جاء في قوله تعالى:( وَابتَغ فِيمَا آتاكَ الله الدارَ الآخِرَة وَلاَ تنسَ نَصِيبكَ مِنَ الدُنيَا وأَحسِن كَمَا أَحسَنَ الله إليكَ …). القصص/٧٧ … وتجلت في الموازنة بين النزعة الفردية والاجتماعية لتحقيق التوازن بين مصالح الفرد والجماعة للقضاء على الانانية الفردية من جهة ولحماية حرية الفرد وارادته الفردية من جهة أخرى، وتجلت في الموازنة بين الحقوق والواجبات للفرد والدولة والمجتمع … وفي الموازنة بين اتجاه الجنسين: الرجل والمرأة …الخ… ولايخفى على أحد ما لقاعدة الأعتدال والتوازن من أثر على اقرار نظام الحياة وتوجيه امكانية الإنسان والطبيعة لصالح الإنسانية وخيرها.