الرئيسية / الثقافية / قصة قصيرة …. أوجاع الرحيل

قصة قصيرة …. أوجاع الرحيل

للقاص : كرار حيدر غازي ـ العراق
قالت لي أمي هكذا بدأ دولاب الرحيل منذ ذلك الزمن النحيل و أنا في مدٍ و جزرٍ من الرحيل في ظل كهفٍ لا يأويني من حرٍ ولا بدرٍ و كنتُ كذاك الرحال الذي يشعرُ بالضياع كلما ضيع الطريق وهو بمنتصف تلك الصحراء القاحلة لا يرى فيها غيرُ الرمال والسماء ، ذلك اللون الصحراوي وتلك الرياح التي كانت تعصفُ بي أيُّ عصفاً يهتزُ له عرشي و أحشائي عندما كان أبوك في منفى الخدمة العسكرية فكان كثير الغياب وكنتُ كثيرة الوحدة والاضطراب في زمناً لا يرحم الضعيف ، فكنت في كل برهة من الزمن يعتصرني الالم ، كثيراً ما يشتبه علي بين الم الفراق والم الفراغ والحامي والسند في هذه الحياة . فكنت أُناجي النجوم لعلها تسمع الهموم وتكسر الغيوم التي تملئُ سماء روحي وأنفاسي التي تتكسر بداخلي معلنة صوت الغربة التي كنت أعيشها و أنا في بلدي وبين أهلي لكن كان أباك يمثلُ كياني وهو الذي يعطيني بداية جديدة في كل عودة وكأني اعود للحياة من جديد واموت من جديد عندما يحين الرحيل . فكنت أُصارع ألم الفقر والعيش من حين الى حين بين الرحيل والرحيل كان هناك عذابٌ ونحيل . فكان ظاهري الرهيل يصفُ أوجاع الرحيل الى أن بدأت رحلة جديدة في حياتي فيها أملٌ لأعدام الوحدة وكسر الملل حين اخبروني بأني حامل من هنا بدأت القصة بين أوجاع الحمل والرحيل . كنتُ عظيمة الشوق لرؤية الفرح على ملامح أبيك وانا أخبره بقدومك بقيتُ أنتظر حتى أنتهاء التحاقه وابتداء الاجازة وبالفعل عاد وأخبرته فكان كالطير المحلق في سماء السعادة وتلك الكلمات المبعثرة التي لا تكاد تخرج من فيه من شدة السرور والهيام ،فقط أنساهُ قدومك ثقلُ حملُ السلاح وتلك الملابس الهزيلة التي كان لونها يصفُ مضمونها من الظلام والظلم والاستبداد . فكان أبيك عندما يعود من الموت ، يخرج للجهاد لأجل تأمين لقمة العيش لنا فكان يصارع قساوة الحياة بكل معانيها ولا يعرف معنى الاسترخاء والراحة ابداً . تعاقبت الايام وحانت الولادة وانا سجينة الوحدة والحاجة وابوك سجين احد السجون بتهمة التأخر عن الالتحاق للجيش ومحاولة الهروب من الخدمة العسكرية ، فكنت أُصارع والفظ أنفاسي وأذا بي أسمع صوت البكاء ظننتُ أنهُ بكاء الحرمان لكنهُ كان بكاء المجيئ للدنيا . لا أعلم أذا كان البكاء لفقدان الأمان وربما انت شعرتُ بقساوة الدنيا بعد ما كنت ترتعُ في عالمي الممتلئ حنان ودلال وقد حفظك الله في مكان ليس له التماس مباشر مع الدنيا فكانت أحشائي غذاءُ لك وغطاء وأصبحتُ عريان تنظرُ السماء نظرت المستفهِم الغريب . كان والدك بين عذاب الجيش وقساوة الوحوش الضارية التي لا ترحم كبيراً ولا صغيراً ، فكان يعود وهو نحيل من عذاب الرحيل . فكان التراب غطاءهُ وهو يعالج الشتاء القارص فوق الجبال في حفرة محاط بالاخطار خارجها ومليئُ بالحيتان داخلها . فكان ابوك حياً وهو يحتظنُ التراب والآن ميتاً وهو يحتظنُ التراب . كانت علاقتي بأبي كعلاقة الزهور الصيفية بالشمس كلما تعرضت لأشعة الشمس أعطت أطيب العطر الفواح الذي يريح النفوس ويشفي المريض ويعطي الأمل والتفاؤل للمستقبل ويظهر لك جمال الحياة وينسيك مآسيها ، كذلك كان أبي فكنت كالزهرة التي تشعُ نوراً بأحضان أشعة الشمس ذلك الحضن الدافئ الذي عطاني الأمل والطموح والأمان فكان يقول لي دائما ” لا تنظر ورائك فأنا سندك ولن أخذلك يوما ما ، فخذ عني هذه الكلمات : أن التفت يوما ولم تراني خلفك فأعلم أني متُ . الموت هو المفرّق الوحيد بيننا . كان أبي هو الغذاء الاساسي لي كما الشمس غذاءً للزهور فكان يغذيني روحياً وأخلاقياً . لم أشعر بالضياع يوما و أبي موجود بالرغم من ضعف حالته الصحية لكنهُ كان يمتلك الاصرار والعزيمة والشجاعة والقوة والحب لي فكان يحبني حباً لا أنتهاء له . فكنتُ أراهُ ينسى نفسه ويتجاهلها من أجل أن يؤمن لي تكاليف الدراسة والحياة حتى أُكمَّل مسيرتي الدراسية فكان جلّ همه مستقبلي وسعادتي و أحلامي . أبي هو الراعي الرسمي لكل نجاح حققته وأحققهُ بحياتي كلها فهو مصدر ثقتي بنفسي وهو المشجع دائما كان يشجعني ويعطيني الثقة بنفسي والصبر والقوة ولا يسمح لليأس بأن يستحوذ ولو على ذرة في نفسي . أصعب لحظات حياتي التي عشتها كانت ايام الدراسة الجامعية حيث الكثير من الاوقات تتملكني الحيرة والتشتت لأني لا اعلم هل بأستطاعتِ الذهاب غداً للكلية او لا فكان أبي يذهب ولم يعد الا ومعه مصاريف و أجور النقل وكل ما احتاجه ، فكنت اوقات ارمي الكتاب ويدخل ويراني شارد الذهن فيقول لي لماذا انت بجانب والكتاب بآخر ولماذا هذا التفكير والقلق ويبتسم قائلاً ” ألم أقل لك أني سندك ولن أتركك وحدك مطلقاً ما عليك سوا التركيز على مستقبلك وانا من يهتم لشؤونك . كان أبي يصارع مرض القلب ويعمل نجاراً والجميع يعلم كم هي مهنة صعبة وتحتاج الى قوة بدنية وطاقة وصحة . خلال الكثير من المراجعات للدكتور منعه من مواصلة ممارسة ذات المهنة محذراً إياهُ من الاستمرار وخطرِها على صحتهِ لكنهُ كان ينظر ألي ويقول أن توقفت أنا ، أنت ستتوقف عن دراستك و أحلامك وهذا ما لا أسمح به حتى لو كان العمر ضريبة سأدفعهُ لأراك ناجحا في حياتك وتحصل على حياةٍ كريمة التي طالما حلمتُ بها في ريعان شبابي . هكذا كان أبي حريص كل الحرص على تأدية واجبهِ الأبوي بكل دقة و أمانة . كان هناك تحريض دائم له من قبل الاقارب على خروجي للعمل وترك الدراسة لكنهُ كان رافضا رفضاً تاماً لكل ما يُقال بصدد هذا الموضوع . كنت بعض الاوقات اتاخر عن العودة للمنزل بسبب زحام الطريق فكان يتصلُ بي مرات عديدة حتى وصولي للبيت بخير وسلام فكان يُعانقني ويشمّني وكأني كنت في سفرٍ وغياب لشهور أو سنوات ، خاصة عندما أذهب مع أصدقائي في رحلة للخروج من ضغط الدراسة فكان يتصلُ بي كل ساعة ويطمّأنُ علي ويتكلم مع اصدقائي و يوصّيهم بالاهتمام بي ويحذرهم فكانوا يقولون لي لا زال ابوك يراك طفلاً ويخاف عليك المبيت خارجاً لا يعلمون شدة تعلقهُ بي . والله عندما أعود من الكلية مساءاً أجدهُ واقفاً في باب المنزل ينتظرني يرفض الدخول ما دمتُ لم أعد ولم يتناول عشاءهُ قبل أن يراني بجانبه . أبي انت من علمني معنى الحياة ، أنت من امسكتَ بيدي على دروبِها ، أجدك توافقني رأيي على خطأي حتى لو كنت على خطأي رفقاً بي ، فأنت معلمي وحبيبي ، فتنصحني إذا أخطأت وتاخذ بيدي اذا تعثرت ، فتسقيني إذا ضمِئتُ وتمسحُ على رأسي إذا احسنت . اللهم أغفر لوالدي وأرحمهُ وعافهِ ، واعفُ عنه ، وأكرم نُزلهِ ، ووسع مدخلّه و أغسِلهُ بالماء والثلج والبرد ونقهِ من الخطايا كما يُنقى الثوب الابيض من الدنس ، و أبدلهُ داراً خيراً من دارهِ و أهلاً خيراً من أهله و أدخله الجنة بغير حساب أنك لما تشاء فعال قدير .

شاهد أيضاً

قـراءة فـي روايـة فـرانكشتاين  في بغـداد )) للروائي احمـد سـعـداوي

كتب : جمـال  عـابـد فتـاح ـ العراق هذه الرواية من طباعة منشورات الجمل / بيروت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.