كتبت : نادية عودة سلطان ـ العراق
كلية الآداب ـ قسم الترجمة
ربما نكون قد سئمنا من الحجر الصحي ونتمنى أن تعود الحياة إلى ما كانت عليه قبل انتشار جائحة Covid-19 في جميع أنحاء العالم. الآن كل ما يمكننا فعله هو الأمل في أن ينتهي هذا الوباء قريبًا، ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ سيتوجب علينا ان نلقي نظرة على الأوبئة السابقة في التاريخ لنرى كيف تم حلها ونأمل أن نكون فكرة أزاء كيف سينتهي بنا المطاف مع الوباء الحالي.
إذا كنت قد قضيت وقتاً طويلاً على الإنترنت في الأشهر القليلة الماضية، فمن المحتمل أنك تشعر بأنك على دراية جيدة بكيفية بدء تفشي الأمراض، وكيفية تجنبها ، وحتى كيفية حماية نفسك أثناء الوباء. لكن ماذا عن الطريقة التي تنتهي بها الأوبئة؟ كيف نعرف أننا سنتمتع بأمان للعودة إلى الحياة كالمعتاد؟ أم أننا مقدر لنا أن نقضي بقية حياتنا في الحجر الصحي؟ لمعرفة ذلك ، دعنا نلقي نظرة في الوقت الحالي على كيفية انتهاء بعض الأوبئة السابقة ومعرفة ما إذا كان هناك أي أمل في التخفيف من التباعد الاجتماعي قبل انتهاء الصيف. قبل أن نتحدث عن كيفية انتهاء الأوبئة، علينا أولاً أن نفهم ما تعنيه كلمة “نهاية” بالفعل. كيف نعرف متى نتهى، ولأي شيء تنتهى بالضبط؟ ما هي المعايير المحددة أو الغاية التي نهدف للوصول اليها قبل أن نعلن انتهاء الجائحة؟ ومن يقرر بالفعل أن الوباء قد انتهى؟ وفقًا للمؤرخين الطبيين، فإن للأوبئة نوعان من النهايات – نهاية طبية ونهاية اجتماعية. تحدث النهاية الطبية في حالة عدم وجود أشخاص يمرضون.
هذا لا يعني بالضرورة أن الجميع ماتوا – على الرغم من أن هذه بالتأكيد إحدى الطرق التي يمكن أن ينتهي بها الوباء. يمكن إنهاء تفشي المرض طبياً عندما لا تنتشر العدوى، إما لأن نسبة كبيرة من الناس محصنون أو بسبب وجود لقاح، أو حتى بسبب إجراءات التباعد الاجتماعي الصارمة التي تجعل من المستحيل على العدوى العثور على ضحايا جدد. الطاعون الدبلي المخيف هو خير مثال على جائحة تنتهي طبيا لأن المرض قد اهلك الضحايا. كانت هناك ثلاث حالات تفشي كبرى للطاعون في التاريخ. الأول ، المسمى طاعون جستنيان Justinian ، قضى على ما يقارب من نصف سكان العالم في القرن السادس الميلادي، ولم ينته إلا عندما لم يكن هناك أحد يموت – كان معدل الوفيات مرتفعًا للغاية، ويفترض بعض الخبراء أن الناجين ربما تكون لديهم مناعة قوية، لذلك انتهى التفشي في النهاية عندما لم يكن هناك اي ضحايا جدد.
بدأ التفشي الثاني والأكثر شهرة في الصين عام 1331م، وقتل نصف السكان هناك قبل أن ينتشر إلى أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط. وقتل المرض نحو مئتا مليون شخص في 4 سنوات فقط، مما أدى إلى القضاء على ما يصل إلى ثلث سكان أوروبا.
و في الحقيقة – لدينا هذا الوباء لنشكره على فكرة “الحجر الصحي Quarantine”.
أثناء تفشي المرض في القرون الوسطى، كان الناس لا يزالون جاهلين بشأن كيفية انتشار الأمراض حقًا، لكنهم بدأوا في إدراك فكرة أن التواجد بالقرب من شخص مصاب كان وسيلة ناجحة لانتشار المرض. بدأت مدينة البندقية بمنع البحارة الوافدين حديثًا من الدخول الى المدينة واجبروهم على البقاء على متن سفنهم لفترة من الوقت بعد وصولهم إلى الميناء، كانت الفترة في البداية 30 يومًا، ولكن تمت زيادتها في النهاية إلى 40 يوماً، وهي فترة زمنية تسمى “quarantino”. خلال تفشي المرض لاحقًا في القرن السادس عشر، فرضت إنجلترا أول قوانين الحجر الصحي – أي منزل يوجد به الوباء يجب على الشخص المصاب أن يقوم بوضع راية بيضاء اللون امام منزله، وان يحمل الراية معه في الأماكن العامة حتى يتمكن الآخرون من تجنبه. اتخذت إنجلترا خطوات اخرى خلال التفشي الذي حدث في عام 1665م وحظرت جميع وسائل الترفيه والتجمعات العامة.
علاوة على تدابير الحجر الصحي الجديدة، فإن تفشي وباء القرون الوسطى كانت بداية مبكرة للتباعد الاجتماعي. مع انتشار الطاعون واستمرار ارتفاع عدد الضحايا، لجأ الكثير من الناس إلى منازلهم واختبأوا من المرض. بالطبع، وواجهوا أيضًا صعوبات في إقناع الناس البقاء في منازلهم – نظرًا لأن الطاعون قد اجتاح إيطاليا برمتها، صمم اغلب الناس ان يعيشوا حياتهم على طبيعتها قبل ان يهلكهم الوباء .اذ نزل المحتفلون إلى الشوارع، يشربون ويرقصون ويغنون بينما الجثث مرمية حولهم.
كان آخر تفشي كبير للطاعون في الصين عام 1855م وانتشر مرة أخرى في جميع أنحاء العالم. بعد أن قتل 12 مليون شخص في الهند،فقد أحرقت أحياء بأكملها على الأرض في محاولة يائسة لوقف الوباء – وبالرغم من جهلهم في ذلك الوقت ان كان ذلك قد يساعد بانهاءه ام لا. الخبراء ليسوا متأكدين تمامًا من سبب انتهاء كل تفشي ، أو أضعفه الطقس البارد، أو قد يكون قد تحور وأصبح أقل فتكًا. انتهى الوباء في النهاية، لكن المرض لم يختف. في الواقع لا يزال موجودًا لغاية اليوم.
لقد تحدثنا للتو عن الطرق العديدة التي يمكن أن تنتهي بها الجائحة طبيًا، ولكن يمكن أيضًا أن يكون للأوبئة نهاية اجتماعية. عندما يسأل الناس متى تنتهي الجائحة؟ فهم بالواقع يسألون عن النهاية للتباعد الاجتماعي. لا يعني التباعد الاجتماعي اثناء الوباء أن المرض قد انتهى، بل يعني فقط أن الناس تعلموا كيفية التعايش معه. يمكن أن ينتهي الوباء في المجتمع عندما يسأم الأشخاص الذين يخشون المرض من قيود الحجر الصحي ويقررون أنهم على استعداد للمخاطرة بالإصابة بالمرض لمواصلة حياتهم اليومية.
يعد تفشي الإنفلونزا الأسبانية او الوافدة الاسبانيولية عام 1918 مثالًا رائعًا على نهاية الوباء في المجتمع. السلالة العدوانية والمميتة لفيروس الإنفلونزا التي انتشرت في جميع أنحاء العالم وقتلت الملايين ،وبسبب ذلك صرح احد الاطباء انه “لقد بانت دونية الاختراعات البشرية في تدمير حياة الإنسان” – ،علماً ان العالم انذاك كان في خضم المعارك الدموية المتمثلة بالحرب العالمية الأولى. تحور الفيروس في النهاية الى مرض أقل حدة من الأنفلونزا، وتراجع الوباء ببطء من الناحية الطبية، على الرغم من أن المرض لم يختف بعد. لكن المجتمع قد كسر الحجر حتى مع استمرار المرض في إحداث الفوضى. وفي نهاية الحرب العالمية الاولى، كثير من الناس سئموا الموت والمآسي، وكانوا مستعدين لبداية جديدة. بعد أهوال الحرب، وعلى استعداد للمخاطرة بالمرض للعودة إلى الحياة “الطبيعية” في أسرع وقت ممكن. معظم الاوبئة تنتهي اجتماعيا قبل أن تنتهي طبيا. والنهاية الطبية الحقيقية تكاد تكون مستحيلة. في معظم الحالات نتعلم كيف نتعايش ونتحكم في منع انتشاره وبالتالي منع تفشي المرض على نطاق واسع، ولكن من النادر القضاءعلى المرض فعليآ من الناحية الطبية.
و يعد الجدري أحد الاستثناءات القليلة جدًا. لقد ابتلي العالم بالجدري لأكثر من 3000 عام وتوفي 30 ٪ من أولئك الذين أصيبوا بالمرض موتًا مؤلمًا. في عام 1633، بعد وقت قصير من وصول الاستكشافات الأوروبية الأولى إلى قارة امريكا اوما يسمى حينها العالم الجديد، دمر وباء الجدري السكان الأصليين. وصل المرض مع المستعمرين ، وبما أن السكان الأصليين لم يكن لديهم أي نوع من المناعة ضد المرض ، فقد انتشر كالنار في الهشيم ، مما أسفر عن مقتل ما يصل إلى 90-95 ٪ من السكان الأصليين في بعض المناطق الأكثر تضرراً.
يمكن أن تكون الجوانب الاجتماعية لخطورة للوباء هي المخالفين أنفسهم! مثال على ذلك تفشي فيروس إيبولا في غرب إفريقيا. انتشر وباء الخوف من المرض بشكل أسرع من المرض نفسه. و يذكر انه في احدى المستشفيات في أيرلندا أثناء تفشي المرض ، انتشار أجواء الخوف والذعر، حتى مع انحسار تفشي المرض. وقد رفض بعض ممارسي المهن الصحية علاج المرضى الذين يُحتمل إصابتهم بالعدوى، وبدأ الناس بالتعامل مع الأجانب بريبة وحذر. فمن الممكن أن يتسبب الخوف في إلحاق الأذى الشديد بالأشخاص المعرضين للخطر، حتى في الأماكن التي لا يوجد فيها حالة إصابة واحدة أثناء تفشي المرض. ونظرًا لأن الوباء التالي , لا سامح الله أمر لا مفر منه ، ومن المهم أن نتعلم كيفية التعامل مع القلق الناجم عن الوباء لتقليل الأضرار الاجتماعية التي تسببها حالات تفشي المرض. تعد الأوبئة من أكبر التهديدات التي نواجهها نحن البشر في العصر الحديث. نظرًا لأن عدد الإصابات الجديدة بالمرض في تزايد وبسبب سهولة وسرعة سفر الناس اكثر من ذي قبل، فإن خطر حدوث جائحة عالمية كبيرة يستمر في الارتفاع. وهذا يقودنا إلى السؤال: متى وكيف سينتهي الوباء؟ حسنًا، لن ينتهي الأمر طبيًا على الأقل حتى نحصل على لقاح – وسيستغرق الأمر وقتًا لتطعيم العالم بأسره والقدرة على القول إن الوباء قد انتهى طبياً. حتى مع ذلك، ما زلنا بحاجة إلى مراقبة سلالات جديدة من الفيروس. من الناحية الاجتماعية، يبدو أن هذا الوباء قد ينتهي قريبًا، بغض النظر عما إذا كان آمنًا طبيًا أم لا. يشعر الناس بالإحباط بسبب التباعد الاجتماعي وإجراءات الحجر الصحي، وبدأت الآثار الاقتصادية والاجتماعية لأشهر من الإغلاق تخيف الناس أكثر من المرض نفسه. لن تكون نهاية الوباء انتصارًا مفاجئًا.
قبل العثور على لقاح، من المرجح أن يبدأ الوباء في النهاية اجتماعيًا، حيث تبدأ المجتمعات والبلدان في التخفيف من إجراءات الحجر الصحي. هناك حقيقة أخرى قد تؤثر على كيفية انتهاء تفشي المرض وهي أن بعض المناطق حول العالم تشهد تفشي المرض بشكل مكثف وبمعدلات وفيات عالية، بينما قد لا تشهد مناطق أخرى أي حالات على الإطلاق في مرحلة ما، ستعلن منظمة الصحة العالمية انتهاء حالة الطوارئ الوبائية العالمية، لكن ربما تكون البلدان بمفردها قد تغلبت بالفعل على الجائحة، بينما قد يكون البعض الآخر لا يزال يحارب تفشي المرض. مهما حدث، سنحتاج إلى تعلم كيفية التعايش مع المرض وإدارة انتشاره بينما ننتظر نهاية طبية للوباء. ونظرًا لأن الوباء القادم قد يكون قاب قوسين أو أدنى، سيكون من الحكمة مستقبلاً إبقاء مهارات التباعد الاجتماعي والحجر الصحي .