الرئيسية / الثقافية / قصة قصيرة … يصفر في العتمة

قصة قصيرة … يصفر في العتمة

كتب : القاص : محسن محمد تقي العراقي
مهداة الى روح ايقونة المدينة وحمامة السلام المأسوف على شبابه المرحوم : صفاء مهدي  احد ضحايا النظام البائد ..
صمت عميق مخيف يزحف على مدينة ارهقها الخذلان . سنين عجاف في سجن عنوانه وطن شكلت ابعاده سلطة دموية . هكذا بدأت صبوته. في زنزانة مساحتها متر مربع بعدها اطلق سراحه بسبب نوبات جنون متكررة . في آتون الحرية تشوي رأسه الصغير نهارات القيض , وتصلب جسده مساءات برد قارص . مدينة تتمرغ الاجساد في اوحال ازقتها . يسير على غير هدى يبحث عن الصفاء في العكرة . جنونه محض التياث . ليله سيل ذكريات مؤلمة , ذاكرته المشوشة تبصق نكباتها فتنبو من شفتيه صرخات طفل , لم تكن احلامه سوى كوابيس اختزلت حالتي السقوط او التهشم . قلبه ينسحق مثل حبة تفاح ديست في لحظة نكد , تلهب اردافه سياط الوهم ثم ينتفض وهو يعوي لاكما الارض بقبضة واهنة. في نهارات الزمهرير يتسائل السابلة : من كسر يد صفاء؟ جسد نحيف سلبه الوهن رؤاه حد الضياع في العتمة. رأسه يشبه عود ثقاب مشبع بالرطوبة عافه التوهج . تهرأت نياط قلبه من فرط الياس بعد عام قضاه في سجن مضمخ بالعفن ورائحة البراز . بنيته عصية, لكنها لا تخضع لأرادة عقل مثقوب. بدشداشته الهرئة يجوس الازقة مسرعا كأن وحشا يطارده . يحدث نفسه بصوت مسموع , ساخرا من كل ما يراه الاخرون طبيعيا . يسحق الجوع كيانه الاخذ بالتداعي , ولأيام طوال كانت المعدة تهضم نفسها. ذاكرته المتخمة بعذابات سنين قضاها في سجن الامن العامة تحفظ كل شبر في المدينة . يستدل بأنتماء الشخوص لعوائلهم المتشابكة النسب استنادا لوهج الدم الصارخ في وجوههم . ليله ثقيل وبطيء , يهرب من رياح الشرقي الخانقة اثر تجواله حذاء النهر الى جوف المدينة المضمخة بروائح الاطعمة الزكية المنبعثة من نوافذ البيوت. وهي تستثير شهيته لقطعة لحم او كأس لبن . وحين تنهش ارادته بوادر الاعياء تخذله المعاني وتلدغ رأسه ثعابين الماضي . ينسدح مستسلما لنوم كالموت , يجوس الازقة خافضا رأسه كمن يبحر في زورق لا يقوى فيه على مواجهة الموج ومجذافه محض عصا!. في سجن الامن العامّ كانت تهمته كراهية السلطة فاطلقو سراحه بعد ان اصابة عقله لوثة . السلطة تخاف من شعب بائس صورته صفاء مهدي حين يصفر في العتمة منذ ثلاثين لعنة . عالمه الليلي حافل بالمسرات يغني اذا شاء ويضحك ملأ شدقيه على كل شيء, كان يرى ما عميت عنه عيون الاخرين!. يمر في زقاق تتوالى الى سمعه حفلة مجون تستثير غريزته المكبوتة , يهرب بعيدا كي لا تجلد عقله سياط الذكريات. فهو لم يتذوق شعور من امتطى أمرأة, او لعله تذكر يوم اغتصب اربعة رجال فتاة صهباء في ذات الزقاق. فيما ورد انه كان يرزح تحت سياط سجان اعور سليط لايسعه التعويض عن عار نقصه الا بجلده كلما راق له ذلك. وذات صباح تحرر من قيد الليل ساح في الارض مرحا يعب سيكارا, يتلذذ به كما يتلذذ الملوك برشفة خمر معتق . يغني قليلا بأنين يقطع نياط القلب, انين الذكرى الى قلب امه او ابيه, الى قلوب احبة غادروا مرتان. الاولى كانوا فيها قيد الالفة , والثانية الى عوالم التخفف والالتياث. لم يؤذ احدا, لم يجرح احدا , لم تطأ قدماه شبرا كتب عليه ممنوع لم ولم……. كان يؤنس من يلاقيه بالطف الكلمات ولا يبتغي سوى سيكارة او دينار . دينار واحد لا يشتري به مايسد جوعه , بل يعطيه لطفل يلقاه . تسربل بما يهبه المحبون, ليله قتامة ونهاره بؤس. في الصيف يلوذ بين الاشجار او يتوسل السماء علها تجود بغمامة تسد عين الشمس . ذات مرة كان يهذي في ظهيرة قائظة . خاطب طير اختبأ بين الاغصان يصدح بنغم عذب: انت ياايها الصغير اذهب من هنا ابحث لك عن شجرة اخرى, القدر السيء يطاردني وانت تصدع راسي بتغريدك البائس. غرس سكارة في فمه , تبعتها شهقة مخنوق ثم عاد يرتب الزمن القادم في جدولة مبعثرة وتسائل: جئت صباحا من هنا , طريق غيب الافق نهايته . في بدايته المدرسة التي اقتادوه منها , فجأة صار يجري مسرعا يسابق الذكريات وهي تنساب من رأسه تقاطرت الدموع من عيناه لحظة شم ذات الشذى ايام كان ينتظر حبيبته احلام . تنهد شاهقا سيكارة بكل حرارة الارض وهي تصفع وجهه المغبر . صار يهذي جارا اذيال الخيبة والدموع تنساب من عينيه وبنبرته الانيسة ضل يئن طالبا العون من والديه المتوفيان : (يايما وين انت هسة. يا بوية حاير وين اروح. الدنية حارة .الدنية تلهب) ثم ضحك من عمق التشوه مستخفا بحاله ايما استخفاف فدمدم بهدوء : الحمد لله لازلت احسن من غيري! لم تكن ايامه سوى عواصف مضمخة بالاسى وتراتيل البؤس تصفر في ثنايا قلبه المتهالك . حتى اسلم اخر نفس ذات صباح قاتم . تناقلت الاخبار وفاته على قارعة الطريق …بعضهم ادعى انه شوهد يتنقل خلسة في الظلام بين شجيرات شارع المدرسة , وبعضهم وجده يسير على سطح الماء كشعلة متوهجة ثم يبتلعها النهر!

شاهد أيضاً

قـراءة فـي روايـة فـرانكشتاين  في بغـداد )) للروائي احمـد سـعـداوي

كتب : جمـال  عـابـد فتـاح ـ العراق هذه الرواية من طباعة منشورات الجمل / بيروت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.