محمد الصنم ـ الموصل
ثم ماذا..؟ ثم أن المرات الأولى من كل شيء لا تُنسى. في المرحلة الجامعية وقعت في حب “ساندي” زميلتي، وطيلة تلك الأيام وأنا اتساءل.. هل خُلق الجمال ليختصر على عينيها، أم أن عينيها خُلقت لتقنعني أن لا جمال بعدهما يُعشق..؟! في أحد الامتحانات، اقتربت منها كثيراً لأستعير منها قلماً، حين رأيتُ تلك العينين، وقفت بين الفواصل والنقاط، التويت مع إشارة الاستفهام، اندهشت عند علامة التعجب، كلمات تكتبني وأخرى ترسمني، لأذوب من فرط الحنين، جميلة هي كَغصن ياسمين..! لم تكُن نظرة عابرة فَحسب، بل كانت مليئة بالكثير من: هل تشعر بي؟ هل تصلك جميع الكلمات التي لم أستطيع أن أقولها لك؟ لقد كانت مليئة بالتساؤلات العديدة والأحاديث الصامتة الطويلة. لذلك أحببتها بصمت، وأخفيت عشقاً في ثنايا نفسي كَمثلِ من يخفي الشمس عن عيون الناس وأمسك نفسي عن هوى يغريني كَمثلِ القابض على جمر أحرق راحتيه..!! تحدثنا كثيراً، خطيت سطور كثيرة على صفحات الحب، وأخبرتها بقلبي ولساني وعيوني بأنها كل شيء في حياتي، طلبت يدها مراراً وتكرارا، لكن كانت ترى من الشجاعة الخارقة أن اتقدم طالباً يدها من أهلها، وكثيراً ما تقول “أبي قال أن هذا مستحيل”، لم أعرف سبباً واحداً يمنعنا من أن نعيش قناعاتنا، قراراتنا، أهدافنا وحياتنا. لكن كل ما أعرفه أن في بلدي تموت الذكريات وتذبح الأحلام على منصة القومية، الطائفية، والمناطقية. في بلدي أجمل الأشياء تحدث لنا مصادفة أما الخيبات فكانت تأتي دوماً على سجاد فاخر فرشناه يوماً لاستقبال السعادة، وما اصعبه من سقوط، ليس لإحساسنا بالألم، ولكن لأنه دوماً يأتي بعد سعادتنا بالشيء..!! هكذا قررت أن ألعب دور الفتى الذي تحطم قلبه، وسهرت أياما وليالي اعد النجوم وأكتب النثر، أحتسي أكوابا من الشاي المحروق، تؤلمني معدتي وكنت اظن أن هذه الآم الجوي وقروح الفؤاد التي يتكلمون عنها. افترقنا، تباعدت الأجساد، تمزقت اشرعتنا ولم يبقى في المركب من اشارة للحياة سوى قلوب نابضة ببطيء شديد لتتبادل الشوق والحنين عبر التواصل الاجتماعي. بعد ثمانية أعوام التقينا لأول مرة ، كانت هي عروساً وأنا أحد المدعوين. ولأنني عموماً أفضل اللباس البسيط، شيئاً ما جعلني قبل أيام من المناسبة أشتري ملابس ولو بذلك الثمن الباهض، الأهم أنه لائمني جداً. كان مقعد العروسين خالياً أنذاك، بحثت عن صديق لي أحسست وكأن كل العيون عليَّ وأنا أشق الطريق بين الموائد، فأخذت مقعدي بجانبه، كان الجو هادئاً ورومانسياً، تناوبت الألوان الدافئة، وأضفتْ لمسة ساحرة على المكان، بينما كنت أتبادل أطراف الحديث مع صديقي حطت يدٌ خفيفة على كتفي:- سلام..! يا لها من مفاجئة جميلة، صراحة لم أكن أتوقع مجيئكَ..!! – استدرت عندها وقمت من مكاني لأبادله التحية.. احمد ! أنتَ.. لم أكن لأفوت الحفل وأرفض الدعوة وأنت تعلم جيداً علاقتي بها وبوالدتها وأخوها..! – آه، أعرف، فقط كنت أقصد أنه زفاف من أحببت يوماً، من كانت ترسم معها لمثل هذا اليوم، ولذا اعتقدت أنه صعب تواجدكَ فيه ! – لا عليكَ يا صديقي، ذلك من الماضي، أما الآن فأتمنى لهما حياة سعيدة. – ولكَ أيضاً، بالمناسبة حدثني عن أحوالك وأموركَ؟!استرسلنا في الحديث وتوالت لقاءاتي مع أفراد عائلتها، وأغلبهم كان يستغرب حضوري.. عندما دخل العروسان إلى القاعة، شعرت بوخز في يسار صدري، تلك المضغة اللعينة ذكرتني بشعورٍ صادقٍ استولى عليَّ ذات يوم، لاحظت وكأنها تبحث عن شخصٍ ما ، فيما كنت أبحث أنا عن علامة ما تدل ولو بشيء يسير على أنها تذكرتني..! ابتسمت لسذاجتي وتابعت الأحداث بصمت. كنت سعيداً، مبتسماً طول الحفل، عكس ما كنت أتخوف منه، تلك الدمعة التي حذرني منها احمد لم تخني، ولم تملأ عيني ابدا. في نهاية الحفل كان لزاماً عليَّ أن أبارك لهم وأعطي لهم هديتي البسيطة، وجهاً لوجه، نطقت بتلك الأحرف، شعرت بقوة خفية، جعلتني أتعامل معها كشخصٍ غريب حضر حفل زفافها، بادلتها الابتسامة وانصرفت..!! اليوم قد أكملت عقدي الرابع، مضى على زفافها احد عشر سنة. وبينما يمر شريط الذكريات، تذكرت مقولة لها: وإن سالوكَ يوماً، لمن كل هذه الحروف..؟! لماذا كل هذا الغزل ..؟! قل لهم: هنالك امرأة على الطرف الآخر من الشوق، قد عقدت قرانها على نبضي ولن أبرح حتى ألقاها. لقد سألت عنها في كل الأماكن ولم أعثر عليها، حتى سمعت من إحدى زميلاتنا أنها رزقت بطفلٍ ، عمره الآن عشر سنوات، وأنها أصبحت امرأة بدينة مُرعبة، تغيرت ملامحها كثيراً..!! سائرٌ في إحدى طرقات مدينة ساندي، وفي إحدى امسيات تلك المدينة المفعة بالجمال، وجدت فتاة تشبه ساندي الشابة تماماً، ذات العيون وذات الطول وذات الشعر الذهبي، لها نفس اللمسة الرقيقة الحزينة، طلبت أن أتقدم لها لكنها نظرت إليَّ في تأملٍ طويل، ثم قالت: أنت في وضع مادي لا بأس به، كل شيءٍ فيكَ جميل ولكن معذرة لا توجد شعره واحدة سوداء في رأسك، ألم يخطر لك أنك لو تزوجت في سن العشرين لكانت عندك إبنة بمثل سني..؟ يا سيدتي فالليالي تزينها الأقمار، وجميل أن يكون لي رأساً كالقمر وسط ظلام الحياة..! معذرة يا سيدتي كل ذلك لم يعد يجدي نفعاً.. إن أعظمُ خيانة هي أن تخونك الكلمات وأنت في أمسّ الحاجة إليها، ستكره صمتك حينها، لكنه سيدوم طويلاً بعد ذلك. اليوم قررت الزواج، سأتزوج من فتاة قد أثارت إعجاب أمي ولم تثر فيَّ سوى الحزن، ولكني سأتزوجها لأنها أحبتني، على حسب ما نصحني به صديقي دلشاد: تزوج التي تحبك ولا تنتظر أن تُحب..! سيكون العرس رائعاً جداً، إلا أنكِ لم تكوني العروس يا ساندي..!! أيها العاشق قبل أن تبدأ الحب فكر واسأل نفسك أي موت تحب.؟ رمياً بالفراق؟ خنقاً بالحنين؟ أم دهساً بالذكرى.؟ أم أنك تفضل الموت بوعكة شوق ؟ إني خيرتكَ فاختار. ستكون كل هذه الخيارات واردة عندما يقع قلبك في حب شخصٍ ما ليس من نصيبك، ستعيش في جحيمٍ مروع، ستقتل ألف مرة في اليوم الواحد، سيقطع جسدُك أشلاءاً ويعاد ترميمه، ستصلى ناراً من الحب تحرق جسدك كلما نضج جلدك بُدِل بغيره..! كل حرفٍ ممن تحب سيكون كَوقود سُكبت على تلك النار ألت.