الرئيسية / الثقافية / قصة قصيرة …. رسالة من الاخرة

قصة قصيرة …. رسالة من الاخرة

كتب : محسن محمد تقي العراقي ـ العراق

جسد تلاشى بين ذرات تراب تذروه رياح لها حفيف كدر . الروح تتعالى في عالم اثيري . روح ارتقت تحت وطأة الاستلاب والقبض المؤلم مثلما تنتزع النخلة الباسقة من جذورها المتشبثة بحشايا الاديم , شوق جارف يتملكها لتعرف احوال من سلبوها وجودها الارضي , تطل من كوّة سحيقة تسبح في فضاءات عالم ارضي كانت تنعم فيه بالامل والحب , تطوف مثل برق خاطف مدججة بالاسى .

ففي ليلة شتوية كان للرياح حفيف محزن انتفخ برقم كوني لعديد المفخخات , ستة من الضيوف قتلوا بدم بارد في باحة بيت مجاور سحق الخبر عقول اهل الحي فاستحال ليلهم المدلهم ثقيلا كئيبا مضمخا بروائح عطنة . كان القمر راسخا في السماء كعين ازلية تسكب ضوء شفيف يغسل قلوب شعب عجز عن تنفس السلام الذي هاجر بعيدا تحمله حمائم بيضاء .

انحدرت بي الذاكرة الى طفولتها, طفولة مترعة بالحب ! حب البشر لبعضهم وحب الضرع والزرع . ليالِ لم يكن فيها راع ساسً حماره بالسوط , او تنمر بشر على هرً استهواه التنزّه , ليال لم اشهد خلالها حامل فأس حزّ غصن الشجر بطرائق وحشية ولم ارَ شحّاذا افترش البسيطة يأكل خبزا بسعر الكرامة , ايام كان للكرامة قيمة حياة , في غمرة التطواف في فيافي المدن وبين الازقة او في اختراق حجرات البيوت الكبيرة في غمرة ذلك كانت العين تلتقط ماتراه , اذناي مرهفتان , جسدي الاثيري لم يخضع لقوانين ارضية ,لكنه ولوهلة دخل في صمت ازلي , انفجار عظيم تصدعت على اثره الجدران .احترق من الدنيا صورتها الجميلة , خبا البهاء واظلمت الاجواء , تلاشت صور الاحياء وطغى لونها الاحمر والحصيلة يرويها شريط العواجل : مائة بين قتيل وجريح! تمزقت اشلائهم لا ذنب لهم سوى انهم لا يشاطرون القتلة فكرة غبراء عنوانها ( جئناكم بالذبح! ).

مررت بمستنقعات حلمية على اطراف صحاري تأطرت بالاسى لحظة داهمتني اغفائة ختمت باستيقاظ مذعور , جررت جسدي كمن يجر جدار, لكن شوقا الهب قلبي فسابقت الريح كي ارى زميلتي رغد . ولمن لايعرفها . اقول: انظر الى اي حمامة بيضاء وستعرف وهج الروعة التي يحتويها وجه ملائكي . جسدها الممتليء انوثة يتمايل بهدوء كغصن اثقلته الثمار .

كنت اختلق الاف الاسباب كي انعم بلحظة حوار . لم اكن اعلم ان الحب يأتي للذين انشغلوا عنه. الحب فخ جميل تنصبه الايام . تذكروا انني ميت يروي حكايته من نقاء عالم اثيري غير عالمكم , عالمي مترع بأرتال بشرية بين جلاد وضحية كانوا بينكم . بينهم كنت ابحث عن القتلة . وشوش في اذني صوت رخيم قائلا: لا تتعجل….. قاتليك لازالوا في ذاك العالم فانتظرهم . وحتى تحين ساعتهم ساروي كيف قتلوني: اتصلت زميلتي رغد : ارجوك اشعر ان احدا في البيت هل يمكنك الحضور ؟ ثم اكملت حديثها.. كلما اتصلت بزوجي لايرد. ابحرت في ليل بغداد المضمخ برائحة الموت في الطرق فخاخ تتفجر عن بعد , الازقة موحشة ونباح الكلاب يشي بأمر مخيف, فرع تلاه اخر موحش ثم الباب الذي كان مواربا , ولجت حديقة المنزل اوقفتني بندقيتان صوبت الى رأسي..اقتادني اثنان حتى الباب الداخلي . طلبا مني الصمت وبعد ان طرق احدهم الباب . غرس الاخر فوهة البندقية في رقبتي طالبا مني الرد بتعريف نفسي باختزال.

ـ رغد: من الطارق ؟ اختنقت بالكلمات وبإيمائية زاجرة من احدهم اجبت: 

ـ انا ياسر فتح الباب ثم اندفعنا جميعا الى فناء البيت, اسقطو المرأة ارضا ثم قيدونا كانا يريدان زوجها فصارت الضحية وصرت رهينة زائدة . الخاطفون مؤمنون لأنهم مصرون على ما يفعلون لاشك يراودهم في صواب ما يقترفون ! كانوا مدججين بالتهليل خصوصا بعد ان حققوا هدفهم بيسر !وبين الشك واليقين انقطع شعاع الامل بالنجاة . سيتقربان الى الله بحز رأسينا . كان استجوابا سريعا كل ما فيه تبرير اجوف لتطبيق الحد الشرعي استنادا لذات العقيدة الجوفاء والفكر الذي انحدر نحو الظلام . عصبوا اعيننا ثم اقتادونا الى مكان قفر .الريح تصفع الشجر والحجر وبعض المخلفات , الارض حصوية ولجنا مكانا دافيء لا اعرف ان كانت مغارة ام بيت بعض الابواب تفتح واخرى تنغلق بصوت مزمجر. نسمع ثرثرات بلكنة اجنبية , جمهرة تقترب ثم جدال غلفته قلقلات وعنعنات توصلوا فيها الى ضرورة تطبيق الحد .عقيدتهم اعتمدت الولاء لخليفة اختزلو فيه دينا باكمله! احلام يقظتهم جعلتهم يتشبثون بالولاء لماضٍ سحيق يترجم تعاليمه محض دجال .

احدهم قدم لرفاقه عرضا سخيا : لاتقتلوا هذه المرأة سادفع لكم ما تطلبوه الف الفان عشرة الاف من الدولارات ستكون سبيتي .لم انطق بعد ان اختنقت انفاسي بالكلمات ولا اقوى على تحريك جسدي المتخشب.

ركوع مؤلم مع انحنائة قاهرة مادّا رقبتي للامام , كم احببت ان اتنسم من عينيها شهقة هواء ,وقبل دقائق عم صمت مريع.. صمت يسحق القلب ببطء .

دوت الصرخة( الله اكبر) ثم ظلام هاديء انقطعت فيه الانفاس لم اسمع سوى الرنين الذي يسمعه الغواص في اعماق البحر . حز سيافهم رقبتي , تدحرج راسي سقطت عن عيناي قطعة القماش ورأيت اوداجي الاربعة تضخ دما ثقيلا تتمايل فيه صورا كثيرة كانت بينها صورة امي وابي واخوتي والخلان والمعارف والاسواق وبائعات السمك في شريط طويل . حزنت على جسدي الذي تجمد على ذات الانحناءة المريعة . رفسه احدهم وهو يتضرع بخشوع: (اللهم انا نتقرب اليك بقتل الكفار والمنافقين)!

. في عالم الاموات لايهمك سوى البحث عمن قتلك بنصل سيف او رصاصة او كلمة او حتى همزة . يالهشاشة الانسان لازلت ابحث عن القتلة .لفت انتباهي فتاة تلطو هناك قرب شجرة وارفة فتاة احنت رأسها على ساقين انثنيا تبكي بصوت خافت اقتربت منها مررت يدي على خصلات شعرها رفعت رأسها يارب من هذه؟

انها رغد .لقد ذابت الرغبة بالانتقام فليس الموت سوى فناء دنياكم وبداية لحياة جديدة يفصل فيها بين الخصام.ٍ!

 

رسومات : قاسم البديري ـ تركيا 

شاهد أيضاً

قـراءة فـي روايـة فـرانكشتاين  في بغـداد )) للروائي احمـد سـعـداوي

كتب : جمـال  عـابـد فتـاح ـ العراق هذه الرواية من طباعة منشورات الجمل / بيروت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.