كتب / حسن الخليفة
تمتلك الخالة نزيهة الفضلي ذاكرة شفوية تستوعب ما استأثرت بها الجدات من حكايات معتَّقة المعنى والمغزى في بلد الأصمعي راوية البصرة ومسجل تراثها الشفوي من أشعار وحكايات دالة. البصرة القديمة أم الأنهر والشناشيل كانت محل تولدها وسكناها..، تلقت تعليمها القراءة والكتابة والحساب على أيدي المعلمات الفاضلات حافظات القرآن الكريم منهن أستاذتها الملاية (أمونة الفيلي) بمحلة (الخليلية)..، وبنشأتها في بيت عالم وفقيه وتراثي كبير والدها الفقيه المحسن الفضلي بمحلة (المجصة) وبتربية والدتها السيدة أم الموسوعي القدير أستاذنا العلامة الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي والتي كانت ـ أعني أم نزيهة ـ قد تلقت الدراسة في الكتَّاب وحفظت القرآن الكريم وكثيرا من المرويات الدينية والحكم والأمثال والحكايات الشعبية المدهشة التي طالما كان يأنس بها شيخنا الفقيه المحسن الفضلي مصغيا إليها وهي ترويها لأولادها وبناتها تحت (تسلاقة العنب) مع ارتشاف الشاي..؛ لما في تلك الحكايات من معاني ومغازي في قوالب ذات تقنيات سردية تشير إلى عصور الرقي المتقدمة في أدبنا العربي. نزيهة الصبية كانت شعلة من ذكاء بحيث فاقت أقرانها في حفظ القرآن الكريم وتلاوته..، وقراءته بما يصطلح عليه في ذلك المنهاج التربوي العريق في البصرة الفيحاء بـ: 1ـ الاسراد (القراءة السردية المألوفة) 2ـ الإعراب (قراءة هجائية تقرأ النص حروفه وحركاته بمتواليات واسترجاعات بالغة الصعوبة لا يقوى عليها إلا من يتمتع بذكاء خارق وحافظة استثنائية وبموهبة فريدة مقتدرة على ضبط الإيقاعات بين متواليات النص واسترجاعاته..) قبل أكثر من عقد من الزمان قدمتُ دراسة إلى مؤتمر التراث الشعبي بلبنان كان عنوانها: (الملائية وكتاب الملايات، من شعر التراجيديا الشعبي وأثره في الثقافة العراقية…) نُشرت في أبحاث المؤتمر..، وكان بحثا مثيرا كونه أجاب عن أسئلة لا مجال لذكرها الآن..!؟ الشاهد في الموضوع أن من مصادري الرئيسة في البحث كان ما نهلته من خزين ذاكرة الخالة نزيهة رحمها الله. غيض من فيض أثار دهشة ذوي الاختصاص في مؤتمر عالمي..، وكأنما الأصمعي حضر ما بينهم..، تلك هي الروح البصرية في الخالة نزيهة، وفي الأصمعي الذي تحفظ له أرجوزته: صوتُ صفير البلبلِ/ هيَّج قلبَ الثَّملِ…!!؟ تلك الأرجوزة التي كانت تلقيها الخالة نزيهة على مسامعنا ـ ونحن أطفال ـ بطريقة سريعة جدا ذات نبر خاص تثير به انتباه الطفل وتحرضه على الفطنة وتغريه بحب الاستعادة لملاحقة النص ومحاولة فهم شيء منه وتقليده وحفظه…!!!؟ إنه مقصد من المقاصد التربوية البصريَّة التي صنعت الخالة نزيهة وأرادت بسط تلك الصناعة لنا بأمانة واقتدار. مدهش كان إلقاؤها وكأنها تستجيب لتحدي الذاكرة في أرجوزة الأصمعي..، وتتحدى في لهفة طفولتنا كل القصة؛ مما يحرَّضنا على الاستجابة مع كل استعادة والقاء جديد…!؟ إنه الدرس القديم المستعاد في تشقيق كوامن الإبداع في عقل الطفل ومخياله الطري…!!؟ إيهٍ خالتي نزيهة..!! كم كنتِ وفية لثقافتك..، ولما سار عليه المبدعون من البصريين الأوائل..، وكم كنت نزيهة اسما على مسمى..، وكم كان من أشجار وارفة الظلال في ذاكرتنا الطفولية بذرتيها وسقيتيها ونميتيها بلا تعب ولا ملل ولا تأفف..، كنت تنسين كل آلامك وبلاءاتك ما أن نجثو أمامك لاستماع حكاية أو أنشودة أو مثل وحكمة ولغز ممتع مفيد…!!؟ لنا وقفة أخرى مع تراث الخالة نزيهة… بقي أن استحضر طيفا جاءني ليلة رحيلها…!!؟ كان حاضرا فيه أبوها وأخوها الشيخان العالمان المحسن والهادي رحمهما الله وكانت سدرة نبق لم أر مثل حجمها وخضارها في المكان الذي كانت تجلس فيه تروي لنا الحكايات ببيتها في محلة (المجصة)..، السدرة تقطع وكأنها ترتفع إلى السماء..، وأختها ورفيقة دربها أم الحسنين تنادي يريدها حسين…!!؟ رحيلك كان أيام رحيل الإمام الحسين (ع) ولكنك السدرة الخضراء التي لا تموت كما لا يموت الحسين… كلاكما ظُلم وكنت الوفية له في ما تتلين لنا من أشعار في محرم الحرام رثاؤك تجاوز الكلمات إلى الوجود تعلمت من الإمام الحسين كيف تكونين مظلومة وتنتصرين…!!؟ انتصارك كان مترجما بالعطاء..، بالصبر…، بالحب..، بالبراءة التي لا يمتلكها إلا الأطفال…!!؟ هنيئا لك الجنة…أيتها الخالة التي ترجمت مثلَها الشعبي الأثير : (خامَةْ و زبيلْ ترابْ…تاليْ العمرْ موتْ..) ترجمة اليقين الذي يورث الزهد… والذي يمنحنا فقه وجه الشبه في مقولة الإمام الحسين : ((خُطَّ الموتُ على وُلدِ آدم مَخَطَّ القلادةِ على جيد الفتاة))…!!؟