كتب : د. وجدان صادق – العراق
في موروثنا الثقافي ومضات خالدة نشأنا عليها , لا تنسى ولا تتكرر لفرادتها وندرة إعادتها مرة أخرى , فهي لا تملّ على مرّ الأزمان , كمغامرات السندباد , و(كريندايزر) , و(ع هدير البوسطة) لفيروز , و(قارئة الفنجان ) , وفلم ( الرسالة ) , وحكايات ألف ليلة وليلة , وشعر المتنبي , و … , و ( وجع ) .
هذه القصيدة التي كلما تقرأ تولِّد رغبة أخرى لقراءتها , وستغدو كسابقاتها في موروثي الثقافي ؛ هي واحدة من روائع الشاعر المصري الدكتور يحيى عبد العظيم.
في ( وجع ) يضع الشاعر عنواناً يكاد يخلو من الإبهام , مقترباً فيه من المباشرة ليفاجئ المتلقي بكسر أفق توقُّعه , حين يصف وجعه بأنه ألم هلامي … وحين يقول ( وتغيم عينك أيها الوجع … ) , وكأن دكتور يحيى أراد أن يصافح جدّه المتنبي في انزياحاته التي أنسن بها الوجع , وخاطبه بعبقرية شاعر تفرد بالابتعاد عن النمطية لاستدراج القارئ إلى عوالمه التي امتازت باستراتيجية جمالية خاصة به دون غيره , محققاً من خلالها الإدهاش والمتعة , فينشق المعنى إلى نصفين , نصف له , ونصف له , وكله لها ( القصيدة ) .
وهنا تتجلى جمالية الخروج على سلطة النموذج التقليدي , مؤسساً غرابة حضوره عبر تجليات أكثر غرابة , يصعب معها وضع نمذجة مؤكدة لمستويات تآلف الشاعر ووجعه الأثير , بعد أن دمر أمانيه التي شبّهها بالقرنفلة ضمن أبعاد التوظيف الفني ؛ فزهرة القرنفل ( الديانسس ) لها رمزية خاصة , إنها تؤجل رحيقها , وقد ذكرها شعراء عديدون , منهم محمود درويش حين قال :
اذهب فقيراً كالصلاة / وكالنهر في درب الحصى / ومؤجلاً كقرنفلة
وهذه إشارة واضحة على تأجيل تلك الأماني التي لازال هنالك أمل يداعبها , فالشاعر أدرك معنى الوجود المادي للأنساق الجمالية خارج الذات المدركة لها , واصفاً إياها بوجه قرنفلة في إدراك ذاتي محض , إذ لا معنى للجمال من دون الذات المدركة له , وكأن أمانيه صارت ارتدادا إيحائيا للروح , تحاكي المتخيل الشعري بعد أن كانت تغفو على ذلك الأمل , وتهمي , وتحار ؛ لكنها تعود لتحتمي بحسنها الذي ارتآه الشاعر ليكون معبداً تقيم به طقوس وجعها , حتى تصبح عند الشاعر الذي يطلق آهاته كقنبلة موقوتة في إيقاع جمالي متناغم داخل ذاته .
إذن , هو مفهوم ذاتي محض , كما أن حضور الروح كأثر كينوني يزامنه وجع وجودي خلقا نوعا من التكامل الابداعي . يقول الشاعر :
تَهْفُو لِرُقْيَةِ شَاعِرٍ يَضَعُ لَحْنَ الْغِنَاءِ وَرَشْفَةٌ تَقَعُ
فهل يطالب الشاعر نفسه أن تضع لحنا لوجعه , أم أمانيه التي أنسنها هي الأخرى فتؤجج جرحها لغة الشجن … مكرراً الأساليب الفنية لوصف المشهد الجمالي في الأبيات التي تليها .
يقول الشاعر :
رُسِمَتْ عَلَى أَثْوَابِهِ البُقَعُ سَوْدَاءَ تَهْبِطُ ثُمَّ تَرْتَفِعُ
لا أريد أن أفكك هذا البيت , الذي تجاوز فيه يحيى عبد العظيم حدّ الصنعة وما فيها من انزياح وبراعة , لأعطي القارئ فسحة للتلذذ فيه . وكذا الحال في البيت التالي :
فَالْبَحْرُ شَاطِئُهُ احْتِضَارٌ كَامِلٌ لِلْحُسْنِ يَحْوِي قَلْبُهُ شَتَّى الظُّلَمْ
وكأنه قصيدة أخرى , لها وحدة موضوعية منفردة , ولا غرابة في ذلك من شاعر خبير باللغة ووظائفها الجمالية والمنطقية – بالمعنى الأرسطي – .
هل الحزن يداعب ؟ هل المدى يخنق ؟ ما الذي يبكي ؟ هل صوت الصدى يفضح ؟ هل الفزع زورق ؟ كلها صور متراكبة بعضها فوق بعض في سلسلة تراكيبية أو تراكبية متصلة , فلا تنقضي صورة حتى تتصل بصورة أخرى . فللشعراء أدواتهم اللغوية التي تختلف عن الآخرين لأنها تتخذ من الانزياحات أرجوحة لصورها , يتحول بها الشاعر الذي أعيته تلك الأوجاع (فيصير زروق همه الفزع … ) وكأنه لا يريد الاستسلام لذلك الوجع المخبوء في ذاته وقلبه مشكلاً علاقة فطرية بينهما , حتى إن القارئ يستشعر بأن ذاته هو الآخر متعانقة مع ذات الشاعر ووجعه، فيغوص في متاهات شاعر يتوق إلى التحرر من الترقب والحواجز والرؤى في الخطابية والتجريد كي لا يبتعد عن جماليات الخلق والابداع . واعتقد أن الشاعر لم يرد أن يشابه الآخرين أو يتماهى مع خلقهم لأنه يعلم أن التماهي يسبب مشكلة في الخلق الأدبي , وحينئذ لا يكون قادراً على ملء الفراغات وهو المهتم دائما بنتائج الحاجات , فمعظم الحاجات العظيمة لديه كانت مغامرة .
ولأن الحاجة بنت التنازل وأمُّ الاختراع، فقد اخترع الشاعر نسقاً شعرياً يشبه ذلك الوجع المتجذر فيه , الذي لا يعرف كنهه ولا مداخله أو أسبابه .
إن القصيدة بأكملها تسير على هذا الرتم من الخلق والإبداع إلا أننا نلمح في أبيات محددة قفزات أسلوبية واضحة , كما في قوله :
وَالشَّطُّ صَاحِبُهُ الأَثِيرُ الدَّمْعُ وَالـ ـلُّغَةُ الْحَزِينَةُ وَامْتِدَادٌ لِلأَلَمْ
وقوله :
كَيْفَ انْطَفَا الضَّوْءُ الْجَمِيلُ وَلَمْ يَزَلْ غَضَّ الضُّلُوعِ؛ حَبَا، فَأَدْرَكَهُ الْهَرَمْ
وخاتمة قوله :
وَتَغِيمُ عَيْنُكَ أَيُّهَا الْوَجَعُ كَمْ أَنْتَ قَاسٍ أَيُّهَا الْوَجَعُ
بتشكيل نسقيٍّ ميتافيزيقيٍّ ينطوي تحته كمٌّ من المرارة تعيد إنتاج الوجع وخلقه من جديد .
اعتمد الشاعر في هذه القصيدة الشكل العمودي أو القصيدة العربية الأم على بحر الكامل , بطريقة المقاطع متكئا على عنصري الوصف والمفاجأة , محاكياً المتخيل الشعري على وفق أدواته اللغوية وكأنه قد وقف بين المنزلتين على رأي ( المعتزلة ) وهما اللفظ والمعنى .
وَجَعٌ وتغيم عينك أيها الوجعُ وعلى فراش الموت يندفعُ
* * *
ألـمٌ هـلامـيٌّ يـحـطِّـم وحــــــــــــده في ثـورة لغة السنين الـمقبلــــــــــةْ
ومدمرا صـحـو الأماني؛ والأمــــا ني في ضمير الحسن وجه قرنفلـــةْ
تغفو على أمل يداعب جـفنـهــــــا ألق الشباب وفاصل من أسئلــــــــة
تهـمي على شفة تحـــار فتحتـمـي بالصمت من سجن الرؤى والأخيلة
آه على آه تـتـرجـم حـســــــــــرة تُخفي بعمـق الآه نبضة قنبلـــــــــة
لاذت بحصن الحب تـرسـم حوله أملا وصفصافا ومعبد سنبلــــــــــة
* * *
تهفـو لرقيـة شاعـر يضـعُ لحن الغناء ورجفة تقـعُ
***
ظمأى تؤجج جرحهـا لغة الشجنْ ترنو إلى أمـــــــــــل يباركه الزمـنْ
ترسو عـلى شـطـآنه أحلامهـــــا ويلوح من تــــــاريخها شبق الوهـن
وعلى مرافئه التي نامت مـــــدا معها صباح غـــــــــــائـم غيم الفتن
في صـمته المخبوء نبض قــاتل يُفني جذورَ الحســـن أو يُدمي الفننْ
ويثير بين ضلوعه ظمأ ليـقـــــ ـتنص احتدام الحب في قلب الغُصُنْ
سـكرت أنامله التي راحت خيو طُ الضوء تحضنها فتصدمها المحن
* * *
رسمـت علـى أثوابـه البقــعُ ســوداء تهبـط ثـم ترتفــعُ
* * *
حزنا يداعـبها فيخنقها المـــــــــــدى تبكي فيفضح سرها صوت الصدى
تغشــــــــــاه جلجلة الدموع فينزوي يشتاق أن يصحو فيحضنه الهـــدى
يقظ الجفون تنـــــــــام بين ضلوعه أحلام عصفور يهـيم إذا عـــــــــدا
غردا يطير؛ تصير هدأة شــــــدوه نغـما يســــــابق رقصه عدو الردى
نقشت أصابعه الهموم على الرؤى وأبان صوتَ الصمتِ حزنا إن شدا
أعـياه كـســــر في الجناح يـضمه أسفا قـريـح القلب تـعســـا أرمـــدا
* * *
ويصيـر زورقَ همـه الفـزعُ يعــدو علـى موج إذا هجعوا
* * *
فالبحر شاطئه احتضار كامـــــــــــــــل للحسن يحوي قلبه شتى الظــــــــــــلمْ
وينام باطنه على المجهول يـــــــــــــد نو النورُ يطفئه فينخـنقُ القلــــــــــــمْ
والشط صاحبه الأثير الدمــع والـــــــ لغة الحزينة وامتــــداد للألــــــــــــم
والضوء يكسره انحــــــــــدار الحزن تَحْطِمُهُ العواصف؛ ضمه شبحُ السـأم
كنا معا كالضـوء غنى حبـنــــــــــــا قمرا ونجمة قلبه روحــــــــــــــا ودم
كيف انطفا الضوء الجميل، ولم يزل غضَّ الضلوعِ؛ حبا فأدركه الهــــــرم
* * *
وتغيم عينك أيها الوجعُ كم أنت قاس أيها الوجعُ.
يحيى عبد العظيم