كتب: امجد حميد-العراق
لطالما امنتُ ان تميز الانسان نابع من لمسته التكوينية الذاتية, الموجودة بأبسط الاشياء واكثرها وضوحاً وبروزاً. فلم يكن تميزه عن باقي الكائنات متأصل في المزايا التي لا تتوفر عند غيره فقط, بل يتجاوز ذلك ليمتد الى كل الاشياء والفعاليات الحيوية التي تبقي وتعطي كياناَ خاصاً لهذا الكائن وتبقيه على قيد هذه الحياة. فلم يعد الطعام والشراب لاجل البقاء فقط, ولا الملجأ سوى للسكينة والهجوع, ولا الجنس حتى كوسيلة وغرض للإنجاب وبقاء النسل والسلالة. هذا ما يزيدنا امعاناً بزوايا الانسان النفسية والانثروبولوجيه على حد سواء, فوصوله لهذا المستوى, دون اقرانه من الكائنات, يجعل تحليل اي مفهوم او تصور لديه اعقد من الحالة الطبيعية التي يجب ان يؤخذ عليها, فلا كائن حي في الارض غير الانسان يختار طعامه وشرابه ويشكله وينقده ويرفضه بهذه الرفاهية, ولا كائن غيره ستجده جالساً مستمتعاً بمشاهدة بني جنسه يمارسون فعاليتاهم التكاثرية كما توفرها الافلام الثقافية لنا, لان كل شيء لدى باقي الكائنات مبني على البقاء لا الاستمتاع والرفاهية. وهذا ما سنؤسس عليه في مفهوم الزواج والجنس والمرأة, لنكون مدركين اننا نتناول ميزة فريدة فردية يحتكرها بني البشر لأنفسهم, وان امتلكت كائنات غيره ذلك بمفهوم بدائي, ومن غير الممكن امتلاكها بهذه التركيبة والتفاصيل المعقدة عند غيرهم.
ان القدرة البشرية تتمحور في تحويل البسيط الى اداة خلاقة يتم توظيفها لأجل غايات لعينها, بعيده بالغالب عن جوهرها الوظيفي. ذلك ما يجعلنا مدركين ان الغاية التكاثرية قد ضمرت تدريجياً, من الناحية الجوهرية عند اداء هذه الفعالية, بالتوازي مع صعود المتعة الجنسية والاغراض الفردية والاجتماعية والسياسية بشتى تبريراتها. واصبح من غير المقبول على الانسان ان يشرع او يحقق نصيبه وحقه البيولوجي بالتكاثر دونما تهيئة وتوفير وتطبيق بعض الفعاليات الاجتماعية, بمختلف اشكالها التاريخية والمجتمعية, والمختزلة تحت مفهوم ومصطلح واحد وهو ((الزواج)). وتدلنا القصص القديمة المتوارثة على حقيقة بداية هذا المشروع البشري مع بداية الحضارات وصراعاتها, اذ تم توظيف هذا الحق الحيوي لصور اخرى بعيده عن فحواها الوجودي, ونرى ذلك جلياً في كثير من القصص التي نقلها المؤرخ هيرودوت في كتابه المشهور “تاريخ هيرودوت” اذ نقتبس هذه الحادثة المنقولة في بداية كتابه مثلاً:
“ويروي بعض الثقات أن باريس (الاسكندر) بن بريام شاء, بعد فترة من الزمن, أن يتخذ لنفسه زوجاً من الاغريق, وعزم على اختطافها, وقد حمله على هذا قناعته بان ذلك نوع من القصاص على ما جنته أيديهم. وهكذا دبر اختطاف هيلين, فقرر الاغريق يومئذ مناشدته أن يعيد اليهم أميرتهم والتعويض عما لحق بهم من الأذى بسبب تلك الواقعة, قبل اللجوء الى ما هو أشد واقسى. فرد عليهم الملك بالتذكير بالاعتداء على ميديا, وسألهم بأي وجه يطالبون الان بالقصاص, بعد ان كانوا قد رفضوا كل مطلب بالقصاص ورد الأميره الى بلدها وأهلها.” (تاريخ هيرودوت, ص 30)
نكتشف من خلال هذه الحادثة البسيطة بدايات تشكيل مفهوم العلاقات الجسدية وتحويله الى وسيلة بدل ان يكون غاية كما تنص ماهيته. فقد انحرف مفهوم الزواج عن مبتغاه الجسدي والحيوي واصبحت مدلولات الجنس والممارسة تتخذ اشكالاً وتعريفات اجتماعية قد تختلف من حضارة الى اخرى, فهذه السردية, حسب نقل هيرودوت, هي سردية الفرس, ويعلق عليه بلسانهم:
“أما اختطاف النساء فقد قالوا في شأنه انه أمر لا يقدم عليه الا مجرم فظ, وان اثارة نزاع حول اختطاف امراة فضرب من ضروب الحماقة. فالعقلاء من الناس لا يشغلون انفسهم بمثل تلك النساء, اذ من الواضح أنه ما كان لاحد أن يحملهن على ما لا يرضين به. فعندما اختطف الاغريق نساء الاسيويين لم يأبه هؤلاء بالواقعة, اما الاغريق فانهم من أجل امرأة اسبارطية واحدة حشدوا جيشاً عرمرماُ, واجتاحوا اسيا, ودمروا مملكة بريام. ومنذ ذلك الحين والاسيويين يكنون العداء للاغريق.” (نفس المصدر, ص31)
تلك هي اذاً نواة المفهوم البشري الجديد وتجلياته الاولية, مضيفاً الى هذه الفعالية الحيوية مقاييس وظروف وحالات ومسميات تتناسب معها, فاصبح لدينا بعدها مسمى الزواج والطلاق والعهر والعذرية والزنى والدعارة وغيرها. وحتى مجيء الديانات الابراهيمية, وخصوصاً في اخر اشكالها المتمثلة بالاسلام, لم نشهد انقلاباً واستحداثاً لهذه المفاهيم المتوارثة التي سلّمت بها البشرية كما حدث حين مجيئه, اذ شهدنا تجديداً تاريخياً عظيماً لهذه المفاهيم ما سبقه او عقبه انقلاب مثله.
لم يخلق هذا الانقلاب الفكري المتواتر استبعاداً فعلياَ او ضمنياً لاي من المفاهيم القديمة التي تشكل تعريف ممارسة جسدية ما, بل اضافت عليها شروطاً وظروفاً وحالات, وخلقت هذه الاضافات بدورها تعريفات فرعية جديدة قد تختلف بشكل او باخر عن اصلها ولم يكن لها وجود اصلاً من قبل. ومن المثير للدهشة ان النص الهيروديتي السابق , بالرؤية التراجيدية وليس الواقعية, يُظهر احد الجوانب المتكررة كحقيقة تاريخية متوارثة الى يومنا هذا, وهي ان النواة الاساسية لتشكيل وتحديد كل التعريفات السابقة مبنية على تعريف مفهوم واحد وهو الزواج. وكان الاكتفاء ممكنناً بتعريف الزواج من خلال اقتباسه من المعاجم العربية المعروفة لولا اننا ملزمون بالإشارة الى المحاور الاساسية التي جعلت هذا المفهوم دون غيره نواة لكل المجريات الاجتماعية الجندرية كما ندعي ذلك. وينقذنا النص الهيرودوتي مرة اخرى هنا حين نتعمق بدلالاته الاجتماعية والسياسية, والتي تحملها القصة المنقولة حين نسقطها على كل الفترات السابقة والى اليوم, ما يوضح بدوره وجود محورين اساسيين يشكلان النظرية والتطبيق, سواء لأصل مفهوم الزواج او تفريعاته اللاحقة, مهما تكثفت المبررات والشروح والتأكيدات عن الابتعاد عنهما, وهما: العقد والمرأة.
وقد تشعرون بالضبابية والغموض مع مصطلح العقد حالياً, لكن شرحه سيظهر اهميته وحضوره في انعكاس الحالة الباطنة لمفهوم الزواج وما يترتب عليها. ولكي لا نستبق حقيقته ومحتواه يجب علينا النظر الى التعريفات المنقولة لهذا المصطلح من المعاجم ونشرح على اثرها:
“وَزَوَّجَهُ المَرْأَةَ: أَنْكَحَهَا إِيَّاهُ، وَتَزَوَّجَهَا هُوَ: تَزَوَّجَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا. وَالتَّزْوِيجُ: النِّكَاحُ… وَالزَّوْجُ: مَا كَانَ اثْنَيْنِ، وَهُوَ خِلَافُ الفَرْدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ زَوْجٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَاحِبُ الآخَرِ.” ( لسان العرب, ابن منظور, ج2, ص246-247)
“الزَّوْجُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ (الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ)، وَالزَّوَاجُ: العَقْدُ الَّذِي يُبَاحُ بِهِ الوَطْءُ. “
(مجمع اللغة العربية بالقاهرة (المعجم البسيط), ص 417)
من خلال التعريفين الانفين تبين لكم حضور المحورين بشكل ظاهري وليس خلقهم من الوهم او عبثاً, فهم مشتقون اساساً من العقلية الجمعية التاريخية لجميع المجتمعات, والتي اظهرتها في تعريفاتهم المختلفة لهذا المفهوم وبأساليب مختلفة. والحقيقة التي اجتمعت وبقيت على اجتماعها البشرية هي ان فكرة الزواج هي رسم حدود معاملة المرأة من قبل الرجل وليس العكس, وان العقد هو الجوهر المتأصل الذي يتيح ويوفر هذا المعطى في الزواج لتحقيق هذه الفعالية. ويظهر لنا الفاصل الزمني في المعجمين المعروفين, المتمثل بسبعة قرون تقريباً, حقيقة تواجد وحضور هذين المحورين بشكل اساسي في تعريف الزواج, فنرى مصطلح العقد لم يحضر بشكله الصريح في معجم ابن منظور الا ان مفهومه كان ظاهراً في التركيبة الفعلية, لان تكامل مفهوم العقد, كوثيقة مادية او مفهوم مجرد, لم توجد الا بعد مرور الزمن وتصاعد التطور المجتمعي, لذا رأيناه في المعجم الاخير يظهر بشكل حرفي. ولا يقل بروز محورية المرأة في التعريفين عن بروز محورية العقد, فهي الطرف الذي يُعرّف المفهوم وليس الذي يحققه: وَزَوَّجَهُ المَرْأَةَ: أَنْكَحَهَا إِيَّاهُ” بمعنى انها الطرف الذي وضع له العقد وليس من اجلها بالمعنى التركيبي المحض. وهذا ما سنحاول ان نفصله نسبياً كبادئة لفهم وصول مجتمعنا الى مفهوم الزواج غير المألوف.
بعدما تأملنا مفهوم الزواج وارتباطه بصياغة نفسه وباقي المفاهيم, واسقطنا عليه محاوره الاساسية التاريخية والمجتمعية الدينامية بصورة سطحية نسبياً, توجب علينا تفكيك المحاور وشرح توظيفاتها والوسائل التي وفرتها وطرق توفيرها. ولان العقد هو الجوهر الذاتي, كما المرأة تمثل الجوهر الموضوعي, لمفهوم الزواج, يجب علينا فهمه اولاُ قبل التطرق الى تفرّد المرأة الواقعي بالوظائفية التي يمنحها هذا المفهوم, حتى وصل بها الحال الى مفاهيم فرعية التي اسميناها بالزواج غير المألوف. وفهم فكرة العقد كوثيقة مادية او روحية, فحواها الاعتراف والسماح لزوجين مختلفي الجندر بممارسة الفعاليات الجسدية بدون اعتراض من اي فرد من المجتمع, لن يكفي لفهمه بهذا الاطار السطحي, فهناك ابعاد اعمق واوسع جعلت من جزئية العقد في الزواج اداة مهمة لحياكة الهيكلية الجندرية لقرون لا تحصى.
وبعد اظهار الجانب اللغوي لمفهوم الزواج وانبثاق المحورين فيه بصورة مختصرة, ينبغي علينا ان نشرح الجانب الجندري والنفسي الخاص بهما, فهو الاكثر اهمية ويشكل الجزء المبهم من المفهوم. ولان اكبر الاطراف مظلوميةً هي اكثرها فًهماً وابسطها شرحاً لحالتها على الاغلب, سنجد فكرة العقد ومحورية المرأة العامة مختلفة تماماً من الزاوية النسوية سواء كان من المرأة العادية, غير النسوية, او اي ناشطة او كاتبة نسوية, لذا فالرؤية النسوية هي الافضل لطرحها لكي نقيّم على اثرها النجاحات والاخفاقات النقدية التي تحملها هذه الرؤى. واحد الانتاجات المعرفية بخصوص هذا المجال ومفهوم الزواج قد تم تقديمه على يد الاستاذة في العلوم البريطانية (كارول بيتمان), والذي تمثل في كتابها المميز وهو “العقد الجنسي” (The Sexual Contract), اذ تقول في مطلع صفحاته بشكل صريح:
“يعتبر العقد الاجتماعي, في اصل نشوئه, عقداً اجتماعياً جنسياً، لكن غياب هذا الجزء من السردية قد اغفلنا عن معرفة ذلك. ما يعني ان السردية التقليدية لهذا العقد غير مكتملة لدينا من الناحية النظرية, كما ان مفكري العصر يغيبون هذا النصف المحوري والاساسي من العقد المتفق عليه.” (العقد الجنسي, ص1, ترجمتي)
هكذا تبتدأ بيتمان, بكامل صراحتها, نظريتها ورؤيتها عن العقد كاساس في الزواج الانساني, ففحوى وجوده من وجهة نظرها هو السماح الجمعي للممارسة الجنسية. وقد لا ترون في هذا الكلام جديد, اذ اننا متفقون على ان احد الجوانب الاساسية والاهداف من هذا العقد هو الغرض الجسدي, الا ان هذه الاغراض لم تتوسع وتطغى, كما سترينا بيتمان, على باقي الاغراض والاهداف الروحية فحسب, بل انها ستحول هذا الغرض الى اداة تعريفية والة لخلق حدود الماهية الجندرية للمرأة, اي انه الوسيلة التي رسم بها النظام الابوي نفسه ويحييها الى اليوم من خلالها:
“فهذا الميثاق, منذ نشأته الاولى, يحمل في اصله بعداَ جنسياً موازياً للبعد الاجتماعي في كينونة العقد بذاته, فبعده الجنسي أبويّ التركيب, أي أن العقدَ أرسى حقًّا سياسيًّا للرجال على النساء, بل يتجاوز ذلك حين يكون واصلة منتظمة للرجال إلى أجساد النساء. تلك الاصالة الجنسية في العقد ستبني ما سأُطلق عليه، على غرار أدريان ريتش، “قانون الحقّ الجنسيّ للذكور”. بمعنى ان العقد بعيدٌ كل البعد عن مُعارضة النظام الأبويّ؛ بل هو الوسيلة التي من خلالها شكَّل النظام الأبويّ الحديث ذاته.” (نفس المصدر, ص2, ترجمتي)
ستتجه عيونكم وتفسيراتكم الى وصف كلامها بالمغالاة والمبالغة المتعارف عليها من قبل النسويات وافكارهن, الا اننا يجب ان لا ننسى ان بيتمان قد منحت القراء رؤية تصورية بسيطة للجانب النسوي عن مفهوم الزواج بشكل عام, فكما يبدو انها لم تسمع من قبل عن الزواج المؤقت الموجود في التراث الاسلامي ولم تطلع عليه, لكن كلماتها تصدح فيه بشكل مباشر. وسترينا بيتمان, كما سياتي في محله لاحقاً, كيف ان بعض النسويات قد اشاعن بصورة, تشبه المصادفة, نوعاً من انواع الزواج غير المألوف الشبيه بالمتعة.
لقد سعت بيتمان لاثبات رؤيتها المعادية للذكورية في محور العقد من خلال المحور الثاني وهو المرأة, فهي لا تطرح التركيبة الاجتماعية التي فُرِضَت عليها فقط, بل قارنتها ايضاً مع تكوينات الطبقات المجتمعية وتطورها وانحسارها مع تقاربها للمرأة. وتذهب بيتمان ابعد من ذلك اذ تتجاوز التركيبة الجندرية في توضيح محورية المرأة وتجعلها جزءً من التركيبة الطبقية واحد الادوات التي تشكلها حين يتم صهرها في الزواج:
“لم يتبقى في العصر الحديث مثالاً حياً عن ميثاق العمل المنزلي سوى عقد الزواج، اذ يمكننا رؤية ذلك بسهولة في العلاقة الزوجية باعتبارها بقايا من النظام المنزلي ما قبل الحديث, متمثلة بالمنظومة الإقطاعية، أو جانب من جوانب العالم القديم للمكانة الذي لم يتحول جانبه التعاقدي بعد بالصورة الحديثة. هذا ما يجعل النسويات اليوم يصورن الزوجة المعاصرة كخادمة, ويناقشن مفهوم العائلة على وفق ما عرفته مارغيت أيخلير بـ(مؤسسة شبه اقطاعية).” (نفس المصدر, ص 118, ترجمتي)
هكذا تلخص بيتمان الرؤية العامة بخصوص محورية المرأة في هذا العقد حسب الرؤية العامة للنسويات, والتي تعتبر فكرة العقد القراني وجهاً متجدداً لفكرة العقد الموهوم السابق بين السيد والعبد, لذا فان عقد الزواج هو ليس الا وثيقة لجعل المراة امراة منزل تخدم الرجل والعائلة. وسنؤجل رد بيتمان ونقدها هذه الفكرة لاحقاً كون الرؤية النسوية الشاملة كافية لادراك جهل الجهة الغربية بالتنوع الشكلي للزواج الموجود عندنا, فكما اشرنا ونكرر الان ان كل هذه الاطروحات والاراء النقدية مبنية فقط على الزواج المألوف, وهو الزواج الدائمي. ناهيكم ان الرؤية الغربية, برغم انخراط الكثير من النساء بالعمل, ما زالت تحمل هذه السخطة المجتمعية تجاه انحسار التواجد النسوي في المستوى المهني وتركيز تواجد الاغلبية في المستوى المنزلي, وهذا بحث اخر قد لا يسعفنا المجال للتعمق فيه.
بعد هذا الشرح المبسط عن الزواج كمفهوم وناقشنا محاوره, نستطيع ان ندخل بعمق في اساس مقالنا الديني عن هذا المفهوم, فهو الهدف الاساسي والمرتبط بالأزمة الاجتماعية التي نعيشها هذه الايام, وسنعاود اسقاط المحاور عليها مع تقديم الرؤية النسوية تجاهها. وقبل ان يعيبنا ويهجونا المدافعون عن ما سننقده ونتناوله نقول: ان الاطر الموضوعية التي سيتم تداولها لن تكون على الاساس الفقهي او التفصيلي لها, فكلنا نعلم ان لكل زواج غير مألوف مبرراته وشروطه التي تصدعت عقولنا من سماع وجودها. وانما سنتداولها على الاساس المجتمعي الحاضر والمعاصر ومدى تقبلّ الوضع الحالي لها, سواء بالمنطق العام الذي يصنع وجود هذه الانواع من الزواج او التبريرات والشروط المزعومة التي توفرّ وجودها وامكانية تطبيقها اليوم كما سيرون المعترضون على كلامنا.
ستلاحظون بلا شك اننا قسمنا الزواج, من الناحية الاجتماعية والدينية, الى نوعين: زواج مألوف وزواج غير مألوف. وكما هو واضح ان الزواج المألوف هو الزواج المتعارف عليه في اساسه عند جميع المجتمعات بلا استثناء, متمثلاً بارتباط جندري لشخصين مدى الحياة. اما غير المألوف فهو الصور والنماذج المتعددة والمستحدثة والمضافة الى الزواج المألوف, والتي تم توفرها وتناولها تقريباً في جميع المذاهب الاسلامية, والتي تغلب عليها الوظيفة الجسدية والتخلي عن بعض الاصول والاعمدة الاساسية للزواج المألوف. ومن اشهر انواع هذا الزواج واقدمها هو زواج المتعة, واضيف بعدها انواع جدد, متركزة بكثرة في المذاهب السنية, مثل المسيار, والعرفي, والسري, والليليات والنهاريات, وغيرها من الانواع التي تتشابه في مضمونها وتختلف في تركيبتها. ولكي لا نتشعب كثيراً في التنوعات هذه سنكتفي بنوع واحد من الفريقين ليتم التركيز على المتشابهات والمختلفات والحجة البينة التي تجعلنا نقف بوجه هذا النوع من الزواج في العصر الحديث, فسنتناول زواج المتعة لدى الشيعة والمسيار لدى السنة.
ولان زواج المتعة هو اقدم انواع الزواج غير المألوف, باجماع المسلمين على تحليله فترة النبي محمد ص, واكثرها جدلاً سنقوم بتناوله اولاً ونقارنه مع نظيره, زواج المسيار, بشكل منصف. والمتعة معروفة ايضاً لدى الجميع بانه زواج مؤقت يتم الاتفاق فيه على مدة معلومة ومهر معلوم وينتهي دون طلاق او نفقه بحسب الاتفاق الذي سيتم. ومن المتعارف عليه ان فكرة المهر فيه كانت رمزية للغاية اذ يتم الاشارة في بعض المرويات المنقولة, مثل مسلم في جامع الاصول, بساطة المهور التي وصلت الى ان تكون قطع من التمر او الدقيق:
“جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: «كُنا نستمتع بالقُبْضة من التمر والدقيق الأيامَ على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عَمرو بن حُرَيث.” (جامع الأصول ج١١ / ص٤٥١ حديث ٨٩٩٣)
وكما يتضح من الحديث, ان قضية تحريم المتعة شغلت تفكير المذاهب الاسلامية والفقهاء كلُّ بحسب اجتهاده ومصادره ورؤيته المذهبية. وما زاد من غموض تشكيله وصعوبة تحديد حكمه هو تكرار التحريم فيه من عهد النبي الى عهد الخليفة الثاني عمر. وعلى عكس ما تشير له الرواية السابقة فان الكثير من المنقولات تشير الى تكرار تحريم المتعة في عهد النبي مثل ما نقل في صحيح البخاري:
“4825 حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا ابن عيينة أنه سمع الزهري يقول أخبرني الحسن بن محمد بن علي وأخوه عبد الله بن محمد عن أبيهما أن عليا رضي الله عنه قال لابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر.” (صحيح البخاري ج 9 / ص170)
ويوازي شهرة احاديث تحريم المتعة, في المصادر السنية حصراً وغالباً, في خيبر شهرة احاديث تحريمها في عام اوطاس او فتح مكة:
“حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ أَوْطَاسٍ بِالْمُتْعَةِ، ثُمَّ لَمْ نَخْرُجْ حَتَّى نَهَانَا عَنْهَا.” (صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، حديث رقم 1406 ص1023)
وبجانب حجة الاستخصاء, كما ترويها ايضاً بعض الروايات الاخرى, المعروفة عندكم والتي رسمت التبرير للمتعة في غياب النساء في الحرب: “كنا نغزو مع رسول الله ص وليس لنا نساء فقلنا: الا نستخصي فنهانا عنه ثم رخص لنا بعد في أن نتزوج المرأة بالثوب الى أجل..“(مسند ابن حنبل-احاديث عبدالله بن مسعود-ص420). حملت الموروثات الدينية قصة اخرى لا تحمل بعداً تبريراً بالمعنى الصريح, والتي حدثت تحديداً في فتح مكة ونقلتها مصادر كثيرة نذكر منها للتنويع:
“حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: “أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُتْعَةِ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَعَرَضْنَا عَلَيْهَا أَنْفُسَنَا، فَقَالَتْ: مَا تُعْطِيَانِ؟ فَقُلْنَا: رِدَائِي وَرِدَاءَ صَاحِبِي. فَأَقَمْنَا عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْهَا.”“( سنن النسائي الكبرى جـ 5 / صـ 383، حديث 5776)
ومع اختلاف السرديات في هذه القصة من اختيار العامرية للراوي, مع مكوثه وحده وليس مع صاحبه في بعض الروايات, وغيرها من الاختلافات الطفيفة التي تتفق مع الجوهر السردي لها, ترينا هذه القصة مدى غموض وتعقيد وصعوبة اكتشاف اللغز الانطولوجي والتاريخي لهذا الزواج. وما ذكر يكفي ليريكم ما تم نقله عن المتعة في المصادر السنية بقصد من عندنا لكي نتجاوز اول جزء من المعركة التاريخية بين المذهب الشيعي والسني في هذا الزواج, والتي لم تحسم الى اليوم, محققين اول نقطتين من هذا الجدال التاريخي: حجة الذكر الروائي لوجوده في المصادر السنية من قبل الشيعة, وحجة تحريمه في هذه المصادر من قبل السنة.
بعد تداركنا احتمال غفلتكم عن المصادر السنية في ذكر المتعة وتحريمها, سنسعى لتدارك احتمال غفلتكم عن اهم الأسس الفقهية عند الشيعة, والتي بنت بدورها وقوفهم الثابت والفريد في تحليل المتعة, وهذا الاساس هو اعتماد الدليل القرآني كأساس لصحة او خطأ اي حديث, متبعين ذلك الاثر على خطى ما نقلوه من روايات مثل رواية الامام جعفر الصادق ع:”إِذَا جَاءَكُمْ حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَلَا تَأْخُذُوا بِه” (بحار الانوار, ج2, ص227). ما يعني ان تقديمهم للحجة القرآنية يكون سبّاقاً دائماً للحجة الروائية والحديثية. وذلك ما يتضح في كتاب الدكتور احمد الوائلي “زواج المتعة في الاسلام” حين يشرح المتعة ويستهلها بالدليل القرآني كما يلي:
“قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة)) النساء ٢٣) هذه الآية شرعت نكاح المتعة، فان الله تعالى شرع في أوائل هذه السورة النكاح الدائم بقوله: (فانكحوا ما طاب لكم) إلى آخر الآية التي استعرضنا مفادها فيما مر، ثم ذكر بعد ذلك المحرمات من النساء بقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) إلى آخر الآية، ثم عقب على ذلك بقوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) إلى آخر الآية ٢٤ النساء.” (زواج المتعة في الاسلام, ص 137)
هذه احد الاستدلالات الشيعية وليست الوحيدة من الناحية القرآنية, أما من الناحية الروائية فتكون طريقة الرد مختلفة قليلاً, والاختلاف اختلاف مصادر واتباع ومنهجية, فالشيعة يمتلكون احاديث تحمل في طيتها رأياً معاكساً لرأي التحريم, وخصوصاً فترة عمر, ما يجعلها مكتفية بالرد على احاديث التحريم بالبطل والضعف:
“وقد يقول قائل: إن مراد الآية بقوله تعالى: (فآتوهن أجورهن) المهر المستقر بالدخول، فعبر عن الدخول بالاستمتاع. والجواب: إن هذا القول يلزم منه أن القرآن علق وجوب إعطاء المهر كله على الاستمتاع، والاستمتاع أعم من الدخول، فقد يحصل بغير الدخول كما يحصل به، فيلزم من ذلك وجوب إعطاء المهر كاملا لمن قبل أو نظر بشهوة، وذلك باطل. هذا بالإضافة إلى أن العام لا دلالة له على الخاص. وقد نص جماعة من فقهاء أهل السنة على نزول الآية في نكاح المتعة: فقد روى الطبري في تفسيره عند تفسير آية المتعة عن شعبة عن الحكم قال: ” سألته عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال: لا، ” ثم قال الحكم: قال علي عليه السلام: ” لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى الا شقي.”” (نفس المصدر, ص 138)
هكذا تزداد الاثارة في هذا الصراع الفقهي والمذهبي, جاعلاً الامر فيها والحكم عليها وتطبيقها احد المسائل الفقهية الجدلية في العصر الحديث, فالفريقين يمتلكان من المبررات ما يكفيها لتسند نفسها, متداخلاً مع تحديد الصلاحيات والشروط لتحديد اي امر فقهي, فالسنة يرون عمر يمتلك الصلاحية لتحريم المتعة, مع رؤيتهم انها قد حرمت قبله اكثر من مرة, والشيعة لا يرون لديه صلاحية لفعل ذلك ويستندون الى القول المشهور للامام علي ع “لولا ان عمر نهى عن المتعة ما زنى الا شقي.” والموجود ايضاً في بعض المصادر السنية كما يفصلّ ذلك الشيخ الوائلي في كتابه. ومقابل صراع الفقهاء والمذاهب تنشأ حيرة العلماء والمفكرين على اسسها, فغاية المفكر ليست ان يرى سبيلاً في هذا الامر لنفسه بل ان يرى مدى صلاحية اي فكرة لزرعها ونشرها في المجتمع. وتبرز هنا احد الاسماء المهمة في الفكر, الذي كرس حياته لاجل رسم صورة مجتمعية مدنية لامثالية, حتى وان لم تتحقق يوماً او في ايامه, وهو المفكر فرج فوده. اذ شغلت هذه الفكرة جزءً من تفكيره وتدبيره كونها مسألة مثيرة للجدل ولا مكان يناسبها في الدولة المدنية الحديثة ان ثبت جوازها اسلامياً. وقد خرج لنا بعد بحثه في امره بكتاب تحت عنوان “زواج المتعة” خلق فيها بصورة استثنائية حواراً سردياً خيالياً بين فقيه سني وشيعي حول ذلك الامر, واضعاً شرط الحياد والتعادل النهائي في نهاية المناقشة وهو ما نود متابعته منكم. وتكلفة حياديته هي استنفار واعتراض الاقلام السنيّة على كلامه ونقده, ففيه ارتأى ان يعطي لكل طرف صوته وتبريراته ولم يمل كفته على طرف, واحد هذه الشخصيات هي الدكتور القيعي, وهو استاذ التفسير في كلية اصول الدين, فبعد ان نشر الاخير مقالته في جريدة الاحرار بعنوان “حقيقة الحكم الشرعي في زواج المتعة” يرد عليه فوده ويكتب مقال بعنوان “يا فرحة كل شيعي برد الدكتور القيعي” مضافة في كتابه ويقول:
“مرة أخرى يصوب أستاذنا الجليل سهما فيرتد إلى صدره وصدورنا معه فهو يقول للشيعة ولنأخذ منهم – إذا كنتم لا تقبلون أقوال وأفعال أبي بكر وعمر، فكيف تتمسكون بالمتعة التي تحدث في عهدهم، والدكتور ينسى للأسف الشديد أن أفعال أبي بكر وعمر، إذا لم تكن حجة، على الشيعة فهى بالتأكيد حجة على السنة، وأن ثبوت المتعة في عهد أبي بكر وعمر يلزم أهل السنة بما فيهم الدكتور برامجها ويتجاهل أن الأمر ليس شيطانيًا أو سنة سيئة هو أمر دين وعقيدة، ولا ينسى وهو يهاجم الشيعة أن يحكم التصويب فيسقط السهم في ملعب أهل السنة …” (زواج المتعة, ص 109)
لم يكتفي فوده بالرد على الحجج, بل اعطى حكمه ورأيه النهائي, لكن في مقال ثاني, في هذا الامر, وهو الحياد التام وعدم وجود اثبات قطعي على تحريمه, وهو ما نتفق معه كأصحاب رأي ولا يستسيغه الفقهاء من الفريقين:
“واذا كان نهي الرسول عن المتعة لم يثبت لدى الشيعة, فان الجزم بنهي الرسول عن زواج المتعة لم يثبت – اي الجزم – لدى السنة… بدليل انهم لا يعاقبون من يأتي زواج المتعة بعقوبة الزنا… ويرون في زواج المتعة شبهة تدرأ الحد… ألا يجوز لنا أمام هذا أن نذكر أن قضية زواج المتعة قضية خلافية؟” (نفس المصدر, ص120)
سنكتفي بما اوردناه من محاور عن زواج المتعة ونترك باقي محاوره لكم ان لم نتطرق لباقي الحجج والردود في مقبل الحديث, ونقفز الان حول النوع الثاني من الزواج, والذي يشترك معه عدد من الانواع المختلفة لكنها مشتركة في نفس المبدأ والنوع وهو الزواج غير المألوف, وهذا الزواج هو زواج المسيار لدى السنة. وقبل التطرق الى الجوانب الفقهية والمذهبية والتقاطعات والاختلافات بينها وبين ما تناولناه, يجب ان تدركوا حقيقة جوهرية في تاريخ هذا الزواج او انواعه المتفرعه, وهي ان هذا الزواج ليس له تاريخ مذكور لا من الجانب الديني ولا من الجانب الاجتماعي, بل انه نوع تم خلقه وتكوينه في الفترة الاخيرة التي قد لا تتجاوز القرن او القرن ونصف. وهذه الحقيقة يعترف بها المؤمنون بهذا الزواج سواء كانوا على مستوى فقهاء او دارسين له. وبالاطلاع على احد الدارسين لهذا الموضوع بطريقة مفصلة وهو عبدالملك بن يوسف المطلق, استاذ اصول الفقه والقواعد الفقهية في كلية الحوطة بالمملكة العربية السعودية, نرى قد اعترف وبين بشكل صريح في دراسته للماجستير تحت عنوان “زواج المسيار – دراسة فقهية واجتماعية نقدية” بان هذا الزواج لا اساس تاريخي له لا عند العرب ولا عند المسلمين:
“ليس لهذا الزواج أصل في الفقه، فهو مأخوذ من الواقع، والفقهاء القدامى لم يتطرقوا إليه، ولذلك فإن كثيرًا من العلماء الآن يجتهدون في وصف حالته مع صيغة السؤال الذي يسأل بها عن هذا الزواج. فالشيخ يوسف القرضاوي يقول إنه: “زواج شرعي يتميز عن الزواج العادي بتنازل الزوج فيه عن بعض حقوقها على الزوج، مثل أن تطالبه بالنفقة، والبيت الليلي، إن كان متزوجًا، وفي الغالب يكون زواج المسيار هو الزواج الثاني أو الثالث، وهو نوع من تعدد الأزواج وأبرز ما في هذا الزواج: أن المرأة تتنازل فيه بإرادة تامة اختيار ورضا عن بعض حقوقها، هذا الذي يفهمه عن زواج المسيار.” (زواج المسيار, ص76)
وقد تتفاجأون حين تمعنون النظر في الصيغة التعريفية لهذا الزواج بتشابهه العام الى حد كبير بالمتعة لكن بلون فقهي مختلف. الا ان الامر لا ينتهي بهذا المستوى بل يتجاوز ذلك ليكون المبرر الاجتماعي, بنظر الباحث, هو عدم الاعترافات النسوية بالتعددية وزيادة نسب النساء غير المتزوجات هو ما دفع في خلق وتواجد هذا الشكل من الزواج في العصر الحديث:
“حيث ان كثيراً من النساء لا يقبلن بالتعدد, مع تسليمهن بان هذا هو شرع الله – عز وجل – الا ان الغيرة الطبيعية لدى المرأة تجعلها لا تقبل به كواقع عملي. وهذا الرفض ادى الى زيادة نسبة العنوسة, حيث ان المرأة لا تقبل بزوج له زوجة اولى, حتى اذا تقدم بها العمر ولم تحصل على زوج اضطرت لتقديم تنازلات من اجل الزواج كما في زواج المسيار. وقد ادى هذا الرفض ايضاً الى لجوء الرجال الى الزواج عن طريق المسيار بدافع الحرص على عدم علم الزوجة الاولى, وكذلك الخوف على كيان اسرته من الاهتزاز.” (المصدر السابق, ص82)
وبغض النظر عن المبررات المقدمة لوجود هذا الزواج, والتي يتشارك بها المؤمنون بالمتعة في الاعتقاد بهذه التبريرات تقريباً, فان محاولة المؤلف للمقارنة بينه وبين المتعة واثبات تحريم المتعة, باجماع المسلمين باستثناء الرافضة كما اشار في دراسته, قد اوقعه في تناقض لم يلحظه, وهذا التناقض ناجم من تشابه النوعين لدرجة اعتقادي ان ولادة فكرة المسيار جائت للتعويض عن تحريم المتعة لكن باسلوب مختلف:
“لا يترتب على المتعة اي اثر من اثار الزواج الشرعي, من وجوب نفقة وسكنى وطلاق وعدة وتوارث, اللهم الا اثبات النسب, بخلاف المسيار الذي يترتب عليه كل الاثار السابقة, اللهم الا عدم وجوب النفقة والسكنى والمبيت.” (نفس المصدر, ص 99)
بهذه الطريقة المبسطة والمضحكة قد اقام المؤلف على مقارنته التناقض, فقد جعل المتعة باطلة لانتفاء تحقيقها شروط الزواج الشرعي وهو الطلاق, وجعل المسيار حقاً بالرغم انه ينتفي لشروط معينه ايضاً من شروط الزواج الشرعي, وهو النفقة وغيرها, فمن اعطى الحق في ان يكون انتفاء احد الشروط في الاولى يبطله وانتفاء شروط غيره في الثاني لا يبطله؟ وهذا ما يكفينا لننهي الشرح عن النوعين عند الفريقين ونتجه بكم الى اتجاه اخر وهو التحليل التاريخي والاجتماعي لهذين النوعين ومدى امكانية تحقيقهم والسماح بهم في العصر الحالي.
في خضم الصراع الذي قدمناه لكم عن الزواج غير المألوف, سواء من ناحية تحليل وتحريم المتعة او من ناحية المتعة والمسيار عند الفريقين, يبرز لدينا جانبان اساسيان سنستطيع من خلالهما اختصار هذا الصراع الذي طال شرحه ووقعه ووضع الحلول المقبولة والمبنية, والمبررة بنفس الوقت, من الاساس على المحورين اللذين وضعناهما لتفسير هذه الحالات الجديدة: الجانب الاول هو الحقيقة البديهية بعدم تقبلّ مجتمع ما اي زواج غير مألوف بصورة سليمة بالكامل, والجانب الثاني هو غياب وجود سردية تاريخية, جاهلية لا إسلامية او مروية, تفيد او تشرح وجود اي شكل من اشكال الزواج غير المألوف قديماً.
في دخولنا الى الجانب الاول, نكون متيقنين من انكم ستتساءلون ان كنا نحن الوحيدين بالعالم نمتلك فكرة الزواج غير المألوف, ولا استبعد توجهكم للبحث في الانترنت عن ذلك قبل الوصول الى هذه الكلمات. فتحاججونا بعدها على وجود اشكال شبيهة من الزواج غير المألوف التي تناولناها بالعالم سواء دول متقدمة: السويد (زواج الوداع) والهند (زواج الحيوانات), او حضارات وقبائل بدائية: شعب الامازون (زواج المشاركة). لكن الفرق بين التركيبة الاسلامية, بجميع اشكالها التي نوقشت, تتميز عن كل ما ذكرتموه من انواع بشيء رغم اتفاقهم في البنية التي تشكلها المحورين المدروسين, وهذا التميز هو التباين المعرفي والتصديق التبريري الذي يدفع المسلمين الى عمله بشكل اجباري. فأهل السويد مثلاً لا تربطهم عقيدة دينية في هذا الزواج لكي يقوموا بتحليله وارجاعه الى نصوص مقدسه, وعقيدة اهل الهند الدينية لا تدفعهم باي شكل من الاشكال لمناقشة منطقية هكذا نوع من الزواج او حتى محاولة تبريره بصورة علمية او اجتماعية كما المسلمين. هذا هو اساس الجانب الاول في كل ما سبق, فوجود التحليل والنقاش والمنطق هو ما يحدد الفرق والشهرة لتلك الانواع ويخلق بذاته دافعاً للتفسير والتبرير عند المسلمين وليس كغيرهم, فان لم يوجد التحليل والنقاش والمنطق اصبحت الانواع الباقية حالات فردية استثنائية لمن يؤمنون بها, او مرتبطة بعقائد بدائية, حتى وان كثر عدد مؤمنيها نسبياً, فتكون من ضمن انواع الزواج غير المألوف لكن ليست مؤثرة وذات اعتبار يستحق المناقشة هنا.
وعلى هذا الاساس حققنا التحليل والنقاش وبقيت جزئية المنطق, والتي سيكمل هذا الجانب. فبالرغم من الايمان والتوثيق والاستدلال الديني والفقهي لدى الجمهورين, نرى فكرة الرفض المنطقي تطفو في سطح اراءهم. بل يتجاوز امر الراي ويدخل حيز الاستدلال الفقهي والديني بل وحتى الاجتماعي. فنرى فرج فوده الذي اثبت وجود واحتمالية جواز المتعة يستهل مؤلفه بالقول:
“قبل ان ابدأ اعلنها واضحة صريحة …
- لست داعية لزواج المتعة …
- ولست موافقاً عليه …
- ولست قابلاً به لبنات اسرتي وبنات المسلمين …” (زواج المتعة, ص8)
ان هذا الخوف من اساءة الفهم ليس نابعاً من احساس شخصي فقط بل مجتمعي ايضاً, فهناك تناقض منطقي بين شكل الزواج غير المألوف وطبائع العرب وصفاتهم ومفاهيمهم التي نراها ونعرفها هذه الايام, واهمها مفهوم الشرف الذي اشار له فوده في النقطة الثالثة, والذي يعيب المرء في استخدام المرأة كأداة متعة, بالشكل الظاهري والعلني اقلها. ونرى الاستدلالات الفقهية لرفض هذه الفكرة على المستوى التطبيقي ايضاً, ووضع حدود ضيقة لها حد الندرة في تحقيق حالتها. ونجد ذلك الاثر في كتاب “وسائل الشيعة” للحر العاملي في كثير من الروايات:
“(26420) عن علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المتعة؟ فقال: ما أنت وذاك قد أغناك الله عنها؟
(24621) عن الفتح بن يزيد قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن المتعة؟ فقال: هي حلال مباح مطلق لمن لم يغنه الله بالتزويج فليستعفف بالمتعة، فإن استغنى عنها بالتزويج فهي مباح له إذا غاب عنها.” (وسائل الشيعة, ج21, ص22)
ويرد على اثره احمد الوائلي محبطاً من الرؤية والموقف العام من المذاهب الاسلامية تجاه الشيعة فيقول:
“أقول: ليت المقارعة علمية وموضوعية وآنذاك تعطينا ما نحن بحاجة إليه من معالجات، لكنها تحولت إلى مقارعة يميلها الهوى ويتحكم فيها التعصب فينأى بها عن الجو الموضوعي الذي يمر بهدوء أعصاب، بعيدا عن التشنج والتشهير، لان الامر برمته لا يعدو أن يكون رخصة شرعها الاسلام وهي تعيش في بطون الكتب ولا مكان لها على صعيد الواقع الا الماما بقدر ابتغاء الحلال فيما يمارسه الناس من أعمال يهمهم ممارستها دون النظر إلى مشروعيتها.” (زواج المتعة في الاسلام, ص125)
بل ان الوائلي يتجاوز ذلك, متميزاً عن اقرانه في الفكر الشيعي, فيعطي توضيحاً وتوقعاً نظرياًعن سبب تحريم عمر لهذا الزواج كونه الاخير الذي بادر في ذلك:
“ولكن المتتبع للحادثة ينجلي له أن الخليفة إما أن يكون يرى أن المتعة مشروطية بشرط أو شروط فتخلفت شروطها كان تكون مثلا في الغزو والسفر كما استقرب السيد المرتضى ذلك، أو رأي أنها أسئ استغلالها وانتهيت إلى درجة من التساهل وعدم الالتزام، بما رسم لها الشارع فحرمها بالعنوان الثانوي – كما يقولون – وهذا الرأي هو الأقرب، وان الذين عارضوه لا يرون له هذا الاجتهاد. ولقد كان الرجل صريحا مع نفسه ومع الناس حينما نسب التحريم لنفسه ولم ينسبه للنبي صلى الله عليه وآله ولا للقرآن كما فعل من جاء بعده، فاصحر بالمنع وأصر على رأيه كشأنه في كثير من اجتهاداته التي رأي فيها الصلاح للمجتمع.” (المصدر السابق, ص158)
هذا من ناحية المتعة, اما من ناحية المسيار فاعتراضه, من قبل المؤمنين به وغير المقتنعين فيه, اسهل كونه لا يحمل تاريخاً اجتماعياً او دينياً, بل ان منعه لا يتم مجابهته او معارضته بنفس الصورة عند السنة كما سيتوقع ان حدث ذلك عند الشيعة. لذلك السبب قد وضع الاستاذ عبدالملك بن يوسف في دراسته باباً كاملاً تحت اسم (القول الثاني: القائلون بعدم اباحته وادلتهم) اذ نقتبس احدهم منه:
“ومن الذين قالوا بعدم اباحته أيضاً: الشيخ عبدالعزيز المسند, المستشار بوزارة التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية والداعية المعروف بالمملكة. وحمل عليه بشدة واوضح انه ضحكة ولعبة ومهانة للمرأة, ولا يقبل عليه الا الرجال الجبناء فيقول: “زواج المسيار ضحكة ولعبة. فزواج المسيار لا حقيقة له, وزواج المسيار هو اهانة للمرأة, ولعب بها. فلو ابيح او وجد زواج المسيار لكان للفاسق أن يلعب على اثنتين وثلاث واربع وخمس. وهو وسيلة من وسائل الفساد للفساق.” (زواج المسيار, ص120)
بالانتهاء من الجانب الاول نكون متأكدين من يقينكم بتشارك اصحاب الراي في فكرة الزواج غير المألوف معكم انه زواج غير منطقي, بشكله الظاهري اقلها, ولا يمثل تمسكهم به سوى حتمية تاريخية منقولة تفرض التفقّه بها او ازمة اجتماعية خلقت فراغاً استوجب تبريره دينياً.
واذ نحن نراهن بفطنتكم على ما طرحناه, فمتأكدون بانكم لاحظتم ان هناك ثغرة تاريخية في اصل وجود الزواج غير المألوف عند العرب بالتحديد, فصفات العروبة التي نتوارثها لليوم لا تحمل الا بعداً قدسياً لها برغم اصطباغها بصبغة ذكورية. وما يزيد الامر غموضاً هو عدم وجود اثار لمثل هذا الزواج قبل الاسلام ولم يفكر احد من المتناولين له ان يبحث عن اثاره التي خلقته الى اليوم بصورة تاريخية محضة. وهذا ما سيساعدنا ويسمح لنا ان نجعل من الجانب الثاني جانباً تنظيرياً نسعى فيه لافادة المطلعين مستقبلاً على اهم الدوافع التي من الممكن ان تصنع او تبرر وجود زواج غير مألوف, ما يعني اننا سنحاول خلق فرضية خاصة بنا كون لا شواهد تاريخية تشرح كيفية بدايته وكيفية اندماجه اسلامياً.
هناك اشياء تتغير مع الزمان والمكان, وهناك ما تبقى مهما دار الزمان وتغير المكان, فتتغير بشكل طفيف لتناسب زمانها ومكانها. وعلى طول بحثنا, ثبت ان الشيء الذي لم يغيره الزمان والمكان هو محورا الزواج, اذ ثبت وجوده في كل انواع الزواج, مألوفه وغير مألوفه. اما الشيء الذي تغير فهو طريقة فهمنا واستيعابنا لمثل هذه الانواع غير المألوفة التي وجدت بدون نقطة زمنية محددة, اذ حققت محاورها ولم تحقق الشكل المقبول, اذاً فهناك شيء دفع لتكون بهذا الشكل لكي يتم اضفاء شرعية لها في زمانها ومكانها الجديد, أي ان هناك مفهوماً يشبه او يتم تشبيهه به. ولا نحتاج التفكير في ذلك اذ اننا نعرف بديهياً بوصف الزواج غير المألوف على انه (عهر) لكن بمنطلق شرعي كما نستنبطه من الصراع حول انواعه المتفرعة. لكن السؤال المهم كيف نستطيع ان نثبت ان فكرة العهر هي اساس او تشبيه, او حتى تحوير, لفكرة الزواج غير المألوف, قد جعلت النصوص المقدسة منها بشكل او باخر شكلاً ممسوخاً يسمح لبعض الناس ان يمارسها لكن بشكل اخر؟ وهذا ايضاً لا نستطيع فهمه دون التدقيق بزمان ومكان ولادة هذه الانواع من الزواج غير المألوف.
واي ناظر للجزيرة العربية, في فتراتها الاولى قبل الاسلام, سيجد مكة والحجاز مناطق تجارة وسفر. أي انها تحمل صفات المناطق التجارية ومناطق العبور, والتي ترتكز بالأساس على توفير الخدمات للتجار والمسافرين والسائحين. والشيء الذي لم يتغير منذ ذلك العهد والى اليوم هو ان الجنس يشكل جزء مهم وحيوي من هذه الخدمات في مثل هكذا مناطق, ما يعني انه احد المتطلبات الاساسية بالنسبة للمسافرين بمختلف مشاربهم ويشكل بالنسبة لأصحاب الارض شكلاً تجارياً لا باس به للاعتماد على موارده من اهل هذه المناطق. بذلك تكون الدعارة, والتي تمتلك المحورين (العقد والمرأة) لتشكيل مفهومها اساساً, هي شكل من اشكال التجارة التي تتمثل بإعطاء المتعة للمسافر مقابل المال, وهو موجود الى اليوم ولا يخفى عليكم ذلك ابداً.
ذلك على الجانب المدني, اما على الجانب العسكري والحروب, فقد اصبح المتطلب الجنسي غير اساسي في المعارك والجيوش اليوم كما كان بالسابق, أي انه لا يشكل عائقاً حيوياً قد يخل ويضعف القوة البشرية العسكرية كون المثبطات الجنسية يتم استعمالها اليوم للتخلص من هذا العائق. لكن قبل اكتشاف المثبطات, كان الجنس مطلباً اساسياً وحيوياً لدى الجنود, الى حد اخر الشواهد التاريخية شهرة وهو ما كان يسمى في اليابان (بيوت الدعارة العسكرية) او كما يسمونها, ويا للمصادفة, بـ(نساء المتعة) (Comfort Woman). ما يعني ان المسالة الجنسية كان مهمة وفاعلة في كل الحروب القديمة, الى حد اتخاذ النساء المأخوذات بعد الحرب كجزء من غنائم الحرب, مما يسمح للجنود في وطئهن لتحقيق غرض الامتاع الجنسي.
نفهم من ذلك, وهو حقيقة مؤكدة, ان فكرة زواج المتعة لم تكن اساساً موجوده قبل الاسلام لا على الاساس المدني ولا العسكري, بل كان هناك اشكال متعددة من الدعارة المسموح لها حسب الظروف, كالتجارة والسفر والحرب. ولان صفة الاسلام الاساسية, حين تم انبثاقه في الجزيرة العربية, هو التعامل مع كل عادة عربية حسب ترسخها وخطورتها وتأثيرها على المجتمع والدين والفرد, وجدنا التساهل في بعض المسائل ولم نجدها في غيرها, فلم يكن هناك تساهل بقتل الموءودة ابداً, على عكس الخمر الذي تدرج من منع الوصول للسكر حين الصلاة ولم يصل حد التحريم العلني حتى بل الاجتناب. ما يعني ان مثل هكذا عادة تاريخية, نعيشها الى اليوم, بشكل عام, وعادة عربية راسخة بشكل خاص, كانت تحتاج الى التدرج التغييري فيها وفصل انواعها شيئاً فشيئاً, حتى يتم تخفيف ظهورها وتكثيف قيودها الى ان يتم انحسارها في المجتمع. وأحد الاشكال التي نعرفها هي ملك اليمين الذي جاء تخفيفاً لفكرة الرق في زمن الاسلام الاولي, بل وصل في تحديد شكله وتحقيقه الى نبذ تعدد مصادر الرق المعروفة قبل الاسلام مثل العجز عن وفاء الدين او الخطف او الجريمة وغيرها, وهو موضوع لسنا بصدده ويكفينا ذكره كمثال حي نراه اليوم, اذ اختفى ملك اليمين باختفاء الرق عالمياً شرقاً وغرباً وبقيت المتعة كفكرة مبهمة وغامضة لم نستطع حلها.
هذه الفرضية باعتقادي كافية لتوقع اسباب انبثاق زواج المتعة اسلامياً, انه عادة عربية كان من الصعب تجاوزها بشكل مباشر وتم الحاجة الى وضع قيود لها بشكل تصاعدي تدريجياً حتى تبطل حاجتها. ولا يجب ان نكتفي بالفرضية المزعومة من عندنا دون ادلة وبشكل اساسي من قبل ما تناولناه. ومن السياق الذي تناولناه في فرضيتنا سيلاحظ القارئ انه ليس صدفة ظهور تحريم احاديث المتعة في فترات الحروب! بل ان حديث البخاري المنقول من الامام علي في تحريم المتعة والحمر الاهلية زمن خيبر يشير الى ان هذه الاحاديث تظهر, بشكل او باخر, التركيبة الاجتماعية لدى العرب في ذلك الزمن بغض النظر عن الحكم الديني او فكرة المتعة من الاساس. ان موازاة ذكر اللحوم الانسية او الاهلية مع ذكر المتعة هو ليس الا اشارة تاريخية الى ان العرب اعتادت اكل اللحوم الانسية وقت الحروب, او حتى الفترات العادية, مع اباحتهم بمتعة النساء بعد الانتصار في الحروب او فتح مدن ووجود نساء الجنود المقتولين في الحرب. بل ان التحريم المباشر لاحاديث فتح خيبر والمختلفة عن احاديث فتح مكة وغيرها التي صنعت قصة لا مبررة بشكل منطقي تبين استنفار العرب تجاه النساء اليهود, وهذه صفة عربية قديمة اتضحت بصورة غير متعمدة في الاحاديث المروية, بالموازاة مع احاديث الاستخصاء في الحرب التي تدعم فرضيتنا بشكل كبير, فلا نساء تحضر في الحروب ستكفي كل الجنود لكي نستطيع ان نتوقع القصد بالتمتع من قبل فريق المؤمنين! لذا فهي العادة العربية العسكرية, كما العادة العالمية, لكن بصيغة شرعية.
بالاضافة الى تلك الاشارات, فان اشارة حدث عام أوطاس, او عام الفتح, هي اكبر الاشارات دعماً لفرضيتنا. فبغض النظر ان صحت او بطلت القصة, وبغض النظر عن اختلاف اشكال وتفاصيل السردية التي تخص العامرية, فهي تظهر جانبا تراثياً خشي فيه الداخلون بالاسلام عدم سماحيته, والدليل على ذلك هو الفترة التي وضعت (ثلاث ايام) وحرم بعدها. ولم يثيرنا ذلك الشيء وحدنا بل اثار الاستاذ فرج فودة قبلنا وعلق عليه بما يدعم فرضيتنا ايضاً:
“فالقصة تروي ان سبرة وصديقه سألا المرأة التي لا يعرفانها أن يستمتع أحدهما بها, وأن المرأة لم تفزع او تنزعج أو ترفض أو تتعجب, وغاية ما فعلته أن سألت في احدى الروايات: “وهل يصح هذا؟”, فلما أجابا: “نعم”, استجابت المرأة . . . وليعذرني القارئ ان صارحته بان وجداني لم يقبل السؤال واسلوبه ولا الجواب واسلوبه, فالسائلان صحابيان, والتي سؤلت فتاة تعيش في مكة بعد ظهور الاسلام بعشرين عاماً او اكثر, ولست أظن, وبعض الظن اثم, ان مثل هذا الحوار يمكن ان يدور في زماننا المعاصر دون معرفة ودون ان ينتهي الامر الى احد مراكز الشرطة, ومعاذ الله ان يكون فيما اذكره نقداً للصحابة أو المجتمع المكي, وانما لا يزيد الأمر عن تساؤل خطر لي وانا اقرأ الرواية وأتأمل ما ورد فيها.” (زواج المتعة, ص59)
هكذا انهينا فهم الزواج غير المألوف واكتشفنا ضحيته الكبرى, وهي المرأة دوماً. لان كل ما تناولناه يبين بصورة او بأخرى ان هذه الجدلية الحاصلة لم تقم الا على الاساس الجنسي الذي اصبح مفروضاً عليه خلق معادلة جديدة لنصب الجسور المفتوحة للنظام الابوي الحاكم. فلم تكفي اشارة الايام الثلاثة لتحريم المتعة طرف المحرمين فانتجوا المسيار بديلاً عنه, ولم تكفي الدلائل التاريخية المؤمنين بالمتعة انها لم تعد تفي بالغرض والاساس الوجودي لها في ذلك الزمن, بالرغم من محاولة الكثير من تبيان ذلك.
ان هذه الازمة هي ازمة جميع نساء العالم ولا ينحصر الامر على الاقطار الاسلامية ومفاهيمها التاريخية. فالتوجهات النسوية التي تناولت فكرة الزواج من محاوره التي اعتمدنا عليها لم تستخرج حلولاً راديكالية تنقذها من قيد السلطة الذكورية والهيمنة الابوية في العالم. بل ان بعض الحلول التي طرحت تشبه, الى حد يدعو للصدفة, في فكرته وجوهره وبنيته الزواج غير المالوف الاسلامي, وهو ما طرحته النسويات تحت مسمى “intimate contracts” او (العقود الحميمية). وتتناول بيتمان في كتابها “العقد الجنسي” موضحة ان الحل يكمن في الدائرة المجتمعية وليس البيولوجية كما هو مطروح في هذا المفهوم الجديد:
“تكمن عدم ملائمة عقد الزواج التقليدي في عدم خلقه جواً عادلاُ توضع فيه الزوجة مدنياً مع زوجها. ذلك ما دعى النسويات, وخصوصاً في الولايات المتحدة, على خلق وتأييد فكرة تحويل العقد التقليدي الى عقد حميمي او عقد مؤقت. ذلك العقد الذي سيعطي مساحة لا باس بها للمراة للتفاوض على النقاط الجوهرية المتعددة, يهدف في ذاته الى زيادة المزايا النسوية وتكثيف قيمة وحجم القرار النسوي في هذا العقد بعد ان كان ذا حدود ابوية في العقد التقليدي. ” (العقد الجنسي, ص155, ترجمتي)
وبالرغم من انتقاد بيتمان هذه الرؤية, الا انها لا تطرح بدائل او حلول لفكرة العقد الجنسي طول كتابها, بل تكتفي بالطرح والنقد فقط. فهي لا ترى فكرة العقد سوى نتاج ولادة وسيطرة الهيمنة الذكورية على المجتمع, وذلك ما يجعلها تنتقد فكرة النسويات هذه ولا تراها حلاً مفيداً:
“من الامور المسلم بها هو محافظة عقد الزواج على جانبه النمطي, أي ان تركيزنا على عيوب هيكلية العقد تشغلنا دوماُ عن التماس امكانية تحقيق تواجد المراة ومشاركتها التعاقدية في هذا الميثاق. ان الاندفاع الحماسي لتبني فكرة العقدية لدى النقاد بشكل عام, والنسويات المعاصرات بشكل خاص, يبعد اشكالية العقد عن المشاكل النسوية, مكتفين بترميم اطرافه وتحديد ترهلاته على امل ان تظهر المرأة بمنظر ((الفرد)). وفكرة الوصول الى هذا المستوى هي بحد ذاتها تهديد وخطر محتمل يخشاه حراس المكانة الذكورية والنظام الابوي, فتقتضي بدورها على عدم السماح لمثل هذه الاصلاحات بالظهور.” (المصدر نفسه, ص156, ترجمتي)
نصل هنا الى خلاصة بحثنا المطول والذي ارهقكم بالتأكيد. والذي سيكون مختزلاً في سؤالكم المتوقع: (ما النتيجة وما الحل اذاً؟). فأما النتيجة, فان الزواج غير المألوف سواء ثبت وجوده او لم يثبت فان شروطه ومحله قد اختفى باختفاء زواج ملك اليمين, فلا الجندي ولا المسافر ولا التاجر تعجزه شهوته في سفره اليوم, فقد سهل السفر حد السماح لاصطحاب المرء لزوجه, وتعدد المثبطات الجنسية جعل من السهل على الفرد ان يحكم غريزته بالفترة المطلوبة. وحتى حجج نسب الزواج والارامل والعنوسة التي طرحها المسيار, لن تكون حججاً نافعة هذه الايام ان جعلنا الزواج اسهل للفرد منه وان استثمرنا في المجتمع الوعي اللازم في الزواج الفردي وعززنا الدور النسوي فيه, مخرجيها من البوتقة الجنسية التي تلازمها في اول حيضة لها. واما الحل فيتثمل في تحطيم المنظومة الابوية التاريخية في مختلف تجلياته, وصولاً بها الى اخر شكل وهو الشكل الرأسمالي, معززين بذلك دور المرأة المحوري كفرد من المجتمع, ومحققين المكانة النسوية التي لا تدفعها للتفكير يوماً والتمني لو انها خُلِقت رجُلاً. وقد تكونون متشائمين بعد هذا البحث الطويل من امكانية تحقيق ذلك, لكننا ننبهكم في الجوهر الذي دفعنا لكتابة هذا المقال ودفعكم الى قراءته الى هذا الحرف, الا وهو عدم القبول العقلي والمنطقي والمجتمعي فيه, ففكرة الزواج غير المألوف هي فكرة تجددت تاريخياً ولها موعدها الذي انتهى, وقد انتهت عملياً لكن المساعي النظرية تحاول اعادة احياءها, لذلك لن يتم اعدامها او سجنها في كتب التاريخ مالم نعزز من وجود وقيمة المرأة والكيان النسوي في المجتمع, جاعلين فكرة الزواج, في شتى محوريه, فكرة صحية ايجابية لا تقطع او تسلب او تحرم أي جيندر من كيانه وجوهره ووجوده كفرد لوحده او كجزء من المجتمع.