الرئيسية / آراء حرة / الأديب الفاشل: شكسبير والتصور النسوي  الادبي

الأديب الفاشل: شكسبير والتصور النسوي  الادبي

كتب: أمجد حميد-العراق

كل العلوم  البشرية شاركت وساهمت  ببناء  حضارة الانسان وتطوره الحالي  بشكل  مباشر, واضعةً اياه  بمنزلة لا يشاركه  فيها مخلوق في  البسيطة, بل يبعد كل  مخلوق  عنه  الاف السنين  كي يصل  الى نقطة  بدايته. لكن  هذه المساهمة  المباشرة لا تميز  من الانسان شيئاً كون ان  العصا السحرية  التي منحت  القدرة لكل  ذلك  هو العقل,  فهو  الوسيلة المثلى التي  كانت  تستقبل فكرة كيفية  تنظيم الكون   وعكسها لصنع  شيء  ما,  وهذا الشيء  يكون  اما يتناسب وطبيعة  هذه  القوانين او العكس تماماً.  يعني ان مكنونات عقل الانسان لو توفرت في  عقل كائن اخر لتوقعنا وصوله الى نفس النقطة  التي وصل لها الانسان او اقرب  منها نسبياً. ما  ينفي بذلك تميزه  عن الكائنات  الاخرى من  خلال العلوم المكتشفة. بل  الحقيقة ان جوهراً  بشرياً مضافاً اخر يدفع الانسان لهذا التميز, وهو بالتأكيد لا يلتزم  بالقواعد  والضروريات المطروحة  من قبل  العقل  بعد  تلقينه من  العالم الخارجي. ولا  نحتاج ان نحير  كثيراً في  ذلك  الأمر كون هذا الشيء كان متوازياً  مع صعود العلوم الطبيعية, الا وهو الادب.

ولأن الادب, عكس كل علوم الانسان, ليس نظاماً يتطلب  مدخلاً  معلوماتياً من حول الانسان (input), بل  هي طريقة تحويل المعلومات  الداخلة الى هيئة  فنية  ابداعية  لا تمت الى  الواقع بصلة, مثلت  بنفسها تميز الانسان  عن كل كائن في  الكون, فقد يكون السنجاب ذا  دراية بعلل  تكوين  فمه ليسع اكبر قدر ممكن من الطعام, وقد  يأتي  كائن  فضائي  يعرف  اسرار  هذا الكون اكثر من الانسان, لكن لن يكون  هناك اي كائن في هذا الكون  سوى الانسان من يستطيع ان يخلق فناً بيده او يراه بغيره الذي  لا يراه, فرسم اجنحة الفراشة فن عند الانسان لكن ليس بالنسبة للفراشة ولن يكون يوماُ,  لان الاخيرة لن  ترى  ذلك الرسم  سوى هيئة  تشكيلية محضة  حتى وان امتلكت القدرات  العقلية  البشرية لفهمها, اما الانسان فهي  تمتثل لديه موضوعاً ادبياً  متاحاً بإمكانه  تشكيله باي  صورة يريد. هكذا  نفهم ان الادب هو ليس الا جسر  يربط بين  موضوع ما والمتلقي,  ومعطيات  هذا الجسر وطريقة بنائه وتكوينه  هو ما  يمثله  ابداع  الاديب وفنه الهندسي  فيه والادوات المتاحة للاستخدام لديه, لذا هنالك من يحملون موضوعاً  ولا يستدلون  طريقه  الادبي  بالشكل  المطلوب, او تدخل التأويلات  والاهواء  الشخصية  التي ستعكس  عمل هذا  الجسر من التقريب الى التبعيد عن الطرفين, الا ان وجود الجسر محتوم لكي يحقق الهوية الادبية له.

ومن المعروف  ان غاية خلق  الادب  هو لأغراض المتعة والتسلية, بالرغم ان المواضيع التي يحملها احياناً لأثقل  من  ان تكون كذلك. بل  ان نتائجه المرجوة في بعض  اشكاله  الاولية, كالمسرح والشعر, كانت بعيده  كل البعد  عن المنظوم المراد   به  المتعة, ومنها سياسة  التطهير (Catharsis)   التي  نظرها  ارسطو  في  التراجيديا, مستهدفةً  انقباض المتلقي  لا  سروره. وتجاوز الامر  ذلك حين فرض  ارسطو  احد اجزاء جوهر  الموضوع في  التراجيديا  وهو  الحبكة  اذ  قال  مقولته  الشهيرة  في كتاب  فن الشعر: “التراجيديا يمكن أن توجد بدون شخصيات، ولكن لا يمكن أن توجد بدون حبكة.” بتلك  الحالة  نفهم ان كل ما يحتويه  الادب, من اغراض  التسلية  وادوات ابداعية, لن يتكون  الا لو  امتلك موضوعاً وان كان عرضياً, بل ان تطور  الادب قد  اثبت امكانية  التخلي عن كل  اداة من ادوات  صناعة الادب الا  جوهر  الموضوع (theme(s)), وان مدى تلقي المتلقي  وطريقته للتلقي  يتم  تحديدها  ايضاً  من خلال طريقة عرض  ذلك الموضوع بأسلوبه  الادبي  وما حاول ان  يوصله وتركيبة تفكير المتلقي ايضاً.

من المستطاع الان ان نتجاوز فكرة ارتباط الموضوع بهوية الادب, لكن مازلنا لا نفهم كيف  يرتبط الموضوع الادبي مع الكاتب, بل ان من النادر  معرفة او سماع أنسي قد  خطر  بباله تساؤلاً  عن كيميائية الترابط بين الكاتب, بكامل  ما يحمله من  معطيات وادوات ورؤى فكرية, وبين الموضوع الادبي المطروح, بكامل تشكيله  وعرضه واثباتاته وكينونة رأي الكاتب  فيه. والواقع  ان نظرية  رؤية العالم (Worldview)  قد اوضحت  جانباً من هذا التساؤل, فمفهوم  رؤية  العالم  هي  السبيل الذي  يتبعه المحللون  لمعرفة  ما  انتجه  الكاتب وما يفترض ان يكون  انعكاس  لآرائه  وافكاره المبنية  على عصره  ومكانه. الا ان هذا المبدأ  لا  يحل المسألة المطروحة ولسببين: اولاً ان مفهوم  رؤية  العالم لا يفرض على  الكاتب  ان يعطي, بكامل مصداقيته ووعيه, كل ما يعتقده ويراه من خلال النص الادبي او العمل الفني, اي لا شيء مؤكد على ان ما حمله العمل  الادبي يمثل رأيه الصريح, بل من الممكن  ان يتضمن  ردة فعل  شخصية تجاه  حدث  مر به وجسده في هذا  العمل, او حتى يتجنب اعطاء  رأي  ويمزج  الآراء بطريقة ازدواجية كما هي  ميزة  الادب الشكسبيري  التي سنتكلم  عنها. ثانياً ان طريقة رؤية  العالم لدى صاحب العمل الادبي يفصله عن  المتلقي  طريقة  عرض  الاول لعمله وتركيبه, فبإمكانه ببساطة تشكيل جانبٍ نظري يريده  وان لم يكن  يتفق مع ما ينتجه من رأي او موضوع, والعكس حين يقوم باستخدام  هذا الفاصل لإعطاء هيئة موضوعية  تُفهم  عند  متلقيين اثنين  بطريقتين  مختلفتين, تبدأ من اختيار  الاسماء والمكان  والزمان والهيئة الى اعقد حدث او موقف او اشارة فيه.  ولتسهيل عملية الفهم للقارئ, نطلب منه التمعن بالنصين التاليين:

“لما؟ فلقد أخبرني جيف تاتشر عن ذلك، وأخبر جيف جوني بيكر، وأخبر جوني جيم هوليس، وأخبر جيم بن روجر، وأخبر بن الزنجي، ومن ثم  أخبرني الزنجي للتو!

 “حسنًا، وما الصدق في كل هذا ؟ سيكذبون جميعًا. فان لم يكذب  منهم احد فبلا شك  الزنجي سيفعل. أنا لا أعرفه. لكنني لم أر قط زنجيًا لا يكذب. يا للهول! الآن أخبرني كيف فعل بوب تانر ذلك، هاك.“(مارك توين  “مغامرات توم سوير”, ص52)

 

لا تشـتَـرِ الـعَـبـد إلا والـعَـصَـا مـعــه *** إِن الـعَـبِـيــدَ لأنـــجـــاسٌ مَـنـاكــيــد

       مـا كُنـتُ أَحسَبُنـي أَحيـا إلـى زَمَـن *** ٍيُسـيء بـي فيـهِ عَبـد وَهْـوَ مَحمـــــودُ

                               وَلا تَوهـمـتُ أَن الـنـاس قَــدْ فُـقِـدُوا *** وأًن مِـثْــلَ أَبـي البـيـضـاءِ مَـوجودُ                         

(أبي  الطيب المتنبي, هجاء لملك  مصر  كافور الإخشيدي)

بالنظر الى النصين  السابقين  سيدرك المتلقي أمرين, الاول: برغم اختلاف الثقافة التي  جاء  منها النصين,  لم يمنع  حملهما  نفس  البعد العنصري  الذي نمتلكه  اليوم بمفاهيمنا. الثاني: ان شمولية الموقف متضمنة بالنصين  بالرغم من ان  الاول يوحي  لفكرة  عامة  والثاني  لموقف  شخصي, لكن  لم  يمنع  ذلك  من اشتراك  الكاتبين نفس الفكرة العنصرية,  بطريقة نتخيل بها التقائهما بطي زمني  وموافقتهما رأي  بعض  في  ما  قالوه, واضعين  المتلقي, سواء الملاقي للعنصرية او المواجه لها, في حيرة من امره لمواجهة الادب  الذي يحبه الجميع  رغم عنصرية اصحابه  وموضوعه. كشفنا  الان مدى ضعف فكرة  رؤية  العالم (Worldview) لضبط وكبح خروج الاديب  عن  الحدود غير الشاذة  التي  ينقلها للمتلقي, بل  تبين ان هناك  جانب مظلم  مخيف في  الادب, وهو امكانية  صياغة الفن  واستخدامه  كأداة لنقل اي  فكرة مهما كانت شاذة وبأسلوب ادبي مقنع,  فهو كما  عرفناه ليس الا جسر يربط  موضوعاً ما بالمتلقي,  ولا يملك  الانسان طريقة  لإدراك  الموضوع الا بواسطة شكل الادب  المطروح ومعلوماته الذاتية,  فيصبح  بالإمكان ان يحمل  الادب  شكلاً نبيلاً لفكرة  نبيلة, وشكلاً نبيلاَ  لفكرة  شاذة, وشكلاً شاذاً  لفكرة نبيلة,  والأسوء  هو شكلاً  شاذاً  لفكرة  شاذة.

هذه  المقدمة  المطولة كافية  لتزيح  غضب القارئ  لو تلى الكلمات  والشرح القادم, والذي  سننقد فيه ما جاءت به  كتابات شكسبير العالمية بطريقة  تجديدية غير  مسبوقة  نسبياُ. ولن يتم  اعتبار نقدنا ظلماً ومجحفاً  حين  نقول ان الادب الشكسبيري هو من الصنف الرابع  من  الادب, وان كان بباطنيته لا ظاهره,  فذلك هو ديدن المقال  ومسعاه ليوضحه ويثبته من اوسع  ابوابه واعمق طياته, متمثلاً بالمرأة والتصور  النسوي  بالأدب الشكسبيري. 

بالاطلاع الكامل على المسرح الشكسبيري, سنكتشف صعوبة حصر جميع أشكال  الشخصيات الذكورية  (masculine  figures) بالمقارنة مع الشخصيات النسوية (feminine figures) كتقسيم جندري محض, وهي سمة عامة واقعياً ولا يمتاز بها  شكسبير وحده. الا  ان ما نرتمي  اليه هو وقوع شكسبير وبداية كتاباته في  فترة تميزت بحكم نسائي في  اغلب  الدول  المعروفة, ففترة الازدهار الشكسبيري متوجة بالعصر الاليزابيثي الذي حكمته ملكة لم تتزوج حتى, ذلك ما يعطي  انطباعاً اولياً بالشكل الادبي المتوقع من شكسبير  ومحاولة  تحديد  متغيراته, ان وجدت, على ضوء خضرمته التي صاحبت انتهاء عصر اليزابيث  الاولى وحل  محلها الملك جيمس الرابع ملك اسكتلندا, والذي اصبح جيمس الاول في بريطانيا, بل ان قربه  من البلاط  الملكي هو ما  يدفعنا للتدقيق بالأسلوب  الكتابي لدى  شكسبير. وبمحيا عهدين مختلفين اذاً, مع باطلاع سطحي او عميق على الاسلوب الادبي لشكل الشخصيات النسائية ومحوريتهم  وسماتهم, ينحصر تعدد الشكل  النسوي في  الادب الشكسبيري  الى نوعين رئيسيين: امرأة تابعة لنفسها (Following-self Woman) وامرأة تابعة  للعالم (Following-World Woman).

علينا  ان  نبرهن اولاً على حمل الادب الشكسبيري هذا الافق المحدود للرسم النسوي قبل تبين صفاته المطروحة, والذي لا يتعدى كونه  منظوراً ثنائياً, وموجوداً  من الاساس في كل العالم مهما اختلفت ثقافة المرء وانتماءاته. وسهولة اثبات هذه الثنائية التنظيرية  وتمريرها منوط بالجانب  الفلسفي لنظرية  رؤية العالم, والذي لا يتم  تناوله بجدية فعليه  ومن  وجهة  نظر اجتماعية, خصوصاً وقد ازدادت  ضرورة ذلك في القرنين الاخيرين. تنبثق  رؤية  الاديب حقيقة  من أساسين: حياته وما احتوته أولاً, وتركيبة عقله او منهجية  تفكيره ثانياً. وحين يجتمع الأساسين يقع الاديب في  مفترق طرق يحدد من  خلاله شكل تكوين ادبه, فأما سيطرح رؤيته للعالم, بجوانبه الايجابية والسلبية, في فنه مبنياً على رأيه حتى وان  لم  ينل التلقي والخلود, وأما سيطرح رؤية العالم كما  هو, بجوانبه الايجابية والسلبية ايضاً, في فنه مبنياً على تناقضات الواقع, فيحقق بذلك خلوداً وتلقياً جماهيرياً دينامياً, كون فنه صوره للعالم لا  تهدف لتغييره بل لأثبات ستاتيكيته الغير  قابله للتغيير.  ان ازاحة الخلط الحاصل من دماغ القارئ  العزيز  يستوجب ان يكون من خلال  رحلة بسيطة تخيلية  نصنعها, ولن نستخدم مثالاً نسوياً بل نستكمل موضوعنا السابق الخاص بالعنصرية, فنتخيل مثلاً اننا وضعنا شكسبير مكان الكاتب الروائي  جوزيف كونراد,  بكامل تفاصيل حياته  التي دفعته لكتابة  روايته العظيمة “قلب الظلام”, ونتساءل: هل سيكتب شكسبير بنفس الطريقة التي كتبها كونراد ويفضح الفساد الاوروبي ؟ بالتأكيد لا, اللهم سيحافظ على شكل النساء  اللواتي  يرمزن للشر فيها فهن يثرن الطابع الازدواجي المعتاد في ادبه! بل لو ان كونراد قد استحل  مكان شكسبير لما رأينا مسرحية “عطيل” تحمل وجهاً غير مفهوماً عن موقف صريح تجاه الناس ذوي البشرة السوداء, اقلها سنتوقع  حمل  كونراد  انحيازاً  عنصرياً  تجاه الشخصية يغنينا  عن التفكير بأسبابه ويظهر  لنا بشكل مباشر الواقع الاوروبي.

يبين المثال السابق الصفة العامة لدى شكسبير وهي الحيادية المزيفة, الحيادية التي تهدف لجعل كل الفئات المجتمعية المختلفة من ضمن نصه وتتفق مع حواراته الملغومة, فهو كما  قال في مسرحيته الكوميدية (As You Like It)(كما تشاء): “ما العالم إلا خشبة مسرح و مانحن إلا أبطال مسرحياته” لذلك ان التثنية الفكرية والتناقض هو اساس مسرحياته ليشمل نصه الجميع, فنرى شخصياته تارة تقول “أكون او لا أكون, ذلك هو السؤال” (مسرحية هاملت) وتارة تقول “انا لست ما انا عليه” (مسرحية عطيل) فيثير بذلك اسئلة لا جواب لديها او يعطي اجوبة تناسب كل الاطراف بمختلف حقبهم, لدرجة عدم استبعادنا  وقوع الفلسفة العبثية بنفس  المنهجية بيده لو كان في  مكان كامو او بيكيت! هكذا نتأكد ونفهم ان اساس وجود نوعين فقط من الشخصيات النسوية هو الرؤية الموحدة لدى العالم تجاه المرأة, فالمجتمع لا ينتظر او ينتج غير المرأة الخاضعة له(امرأة تابعة للعالم),  فان لم تخضع فستعتبر  متمردة على قوانين الكون وكل فئة بحسب  مسماها (امرأة تابعة لنفسها), فلو توقعنا نوعاً ثالثاً  متصوراً تاريخياً لدى  البشر  لوجدناه يبرز في الادب الشكسبيري.

أصبح بإمكان القارئ الان تمييز كل شخصية  نسائية  في  مسرحيات شكسبير, بل حتى في  كل الادبيات الكلاسيكية التي عاصرته  وجاءت  بعده  تقريباً, فبورشيا الصالحة (مسرحية تاجر البندقية) صالحة  كونها تابعة للعالم, فحتى قصة حبها  المثيرة للمشاهدين مبنية  على احجية والدها, فهي لا تمتلك قراراً لاتخاذ خليل لها خارج هذه الأحجية, وحتى امتثالها كمحامي  في المحكمة جاء على  شكل ذكوري, بل ان تمرد جيسيكا بنت شايلوك ايضاً كان رمزاً لتكون امرأة تابعة للعالم. وعلى الجانب الاخر  تظهر سيدة ماكبث (مسرحية ماكبث) النوع النسوي الاخر وهو  المرأة التابعة لنفسها, اذ تكمن هذه النبرة من الموروث  المسيحي المعتقد  ان أساس الخطيئة كان من حواء لإغوائها  ودفعها ادم  لأكل  التفاحة, ما يجعلها من الاساس بدون اسم للدلالة على كل امرأة تخرج عن قوانين العالم الذكورية وبهذه الطريقة الازدواجية المتخفية بالأسلوب الشكسبيري. ان هذه الامثلة ليست كافية بالتأكيد, لكن ما سيزيدها هو معرفة صفات و انعكاسات هذه الثنائية على الادب بشكل عام وعلى المتلقين عبر العصور بشكل خاص.

لا تنبثق اي شخصية بالمسرح  الشكسبيري بدون حملها تصوراً ذاتياً عن الحياة السياسية المعاصرة لعهد شكسبير , ومن خلالها يتم صقل هذه الشخصية و تنقل تأثيرها على الجانب الاخر, اذ جاء تفسير ذلك من وجود مسرحيات تحمل طابعاً تاريخياً لدى شكسبير, والذي يوضح بدوره وبدون نقاش هدفاً  سياسياً وراء عملها وكتابتها. وأبسط  دليل على ذلك هو اولى مسرحياته المتمثلة بهنري الرابع (Henry IV)وهنري الخامس (Henry V)  واللتان مثلتا بداية طرح التصورات الشكسبيرية الخاصة بالمرأة التابعة للعالم, فنجد اشارة في مسرحية هنري الخامس الى اسطورة العاهرة البابلية  من قبل المضيفة, متبوعة بحدث لحاق بيستول وداردولف مع الملك لفرنسا وتكون وصايتهم ““تمسكي  بفضائل المراة الصالحة.” (المقطع الثاني, المشهد الثالث) كإشارة الى المرأة التابعة للعالم والتي لن تكون ابداً مشابهة للعاهرة البابلية. ويستكمل شكسبير هذه اللوحة النسوية الستاتيكية مع الملكة ايزابيل الفرنسية, والتي ستكون زوجته مقابل حل النزاع والحرب مع فرنسا وكواصلة صلح بين البلدين. من هذا المنطلق يظهر شكسبير عصر حكم الملكة اليزابيث بهذه النعومة المناقضة لطبيعة الحكم وخشونته,  فمن المعروف انها كانت تحكم بواسطة مجلس ديمقراطي معتمد على الشورى, وايضاً اعتمادها على من حولها من البلاط الملكي, فعلى الرغم من انها ملكة الا ان المنطق الذكوري المؤكد لدى شكسبير قد  قام بتقديرها كونها لم تؤثر في الحكم بشكل مباشر ولم تستصبغ احكامها وسياستها بالانثوية الهشة او الشيطانية ابداً, ومحافظاً بنفس الوقت على قيمته التي تبقيه  قريباً من السلطة الملكية. ان تتبع هذه النمطية الشكسبيرية تزيد تأكيدها مع السنوات الاخيرة لحكم  اليزابيث, فبدأ  شكسبير  يعرض هذه الجوانب في المسرح ايضاً ليبين تاريخياً الوضع المأساوي المشرف على انتهاء حكم اليزابيث العذراء, واكثر  مسرحيتين هدفتا  لذلك هي مسرحية ترويلوس وكريسيدا (Troilus and Cressida)  ومسرحية كما تشاء (As You Like It) واللتان اشتركتا  في ابراز التخبط النسوي حين يوضع او يكون ذا اتصال في الشؤون السياسية, والتي ستدفعها لتكون امرأة تابعة لنفسها وليس للعالم ان بقيت هي من تتخذ القرارات بشكل مستقل. تصف الاستاذة باتريكا في مقالتها “التمدد والتضخم” ((Dilation and Inflation مدى ارتباط  مسرحية  ترويلوس وكريسيدا بواقع احداث  السنين الاخيرة التي عاشتها اليزابيث وبطريقة  شكسبيرية معتادة:

تعتبر تقنية التوسع او التأخير الايروتيكي, كعنصر اساسي بالكوميديا الرومانسية ومرتبطة بشكل سلبي مع الواقع السياسي, احد الشواهد الاساسية لسياسة اليزابيث, خصوصاً لمن كانوا يرونها حاكمة ثعلبية السلطة وكاملة السيطرة في  ظل  وصفها كعلامة عصرية لكراهية النساء آنذاك. يظهر ذلك من العلاقة المتوترة بين الحاكمة اليزابيث وحاشيتها الذكور في  فترة سباق كهولتها  الممزوجة بـ(العذرية) التي شكلت صدى واسع للأصوات الكارهة للنساء, متمثلة  في  المسرحيات الثلاث كمرض عضال يغطي المجتمع بأسره.” (“التمدد والتضخم”, ص326, ترجمتي)

يفسر لنا كلام باتريكا وجهين لمسألة المرأة التابعة للعالم: الاول هو السعي الشكسبيري للحفاظ على بقاءه في صف  الحاكمة وان كان الجزء الجندري عنده يرفض ذلك جزئياً, فرفضها  بفردية  الحكم والقرارات واستعانتها بالبلاط الذكوري هو ما شفع لها عند شكسبير للحفاظ على شخصيتها  في  اعماق  مسرحياته في فترتها. الثاني هو النظرة الشكسبيرية التي سينتج من تتبعها تطابقاً اسلوبياً واختلافاً غرضياً في تشكيل  هيئة المرأة, لأن من المهم بعد اظهار باتريكا هذا الوجه الشكسبيري ان نقارن بين اعمال شكسبير قبل موت اليزابيث وبعد موتها, ولن تتحقق شروط المقارنة مالم نتعرف على نتائج الشكل  النسوي الشكسبيري الاول وتكملة دراسة  الشكل  الثاني.

لا يصعب  على المرء اكتشاف الانعكاس المجتمعي الذي خلفته نموذج المرأة التابعة للعالم, لان صورها مكررة في  حياتنا اليومية  ولم يقم شكسبير  سوى بعرضها داخل  اطار درامي  محض كي يستسيغ ذكور العالم واناثه في كل العصور والبلدان ما يحلمون به  من كيان  المرأة. لكن الراسخون في الادب  هم السفن التي تنشر وتساهم في  خلود  النصوص بإيصالها عبر ابداعاتهم الجديدة, بإعادة تشكيلها او دعمها ونقدها بالأسلوب اللماع الذي  يفتح شهية العالم لمثل هذا النموذج المتاح اساساً! ولا نبالغ بالقول حين نتبع مسار الخط الشكسبيري ونرى سالكيه كشخصيات مخدوعة موهومة بالأبداع الفني اللغوي المستخدم ومستدله بمجريات حياتها الذي دفعها للتصديق بأن المرأة التابعة للعالم, التي تشكل الاغلبية من النساء والصورة الشكسبيرية التي ترسمها هي حقيقة المرأة بدون شك. ان كل حقبة ادبية تتميز  بهذا اللون العام تجاه الهوية النسوية, لكن الحقبة الاسمى التي كرست جهودها لإعلائها كانت في العصر الرومنطيقيRomantic Age) ), اذ برزت شخصيات ادبية معروفة مثل  كولريدج قد مجدت بنموذج المرأة التابعة للعالم في النمط الشكسبيري. تنقل لنا الكاتبة انيا تايلور في كتابها “كولريدج الايروتيكي” (Erotic Coleridge) هذه الصورة الشكسبيرية التي يحملها كولريدج, زاعمه بدورها على عدم  صحة تعميم قول كولريدج واعتباره اساس فكرته, مبينةً ان  هذه الشخصيات ليست سوى نماذج يوتوبية (Utopic Forms) لا تكفي  لمعرفة  الرؤية الرومنطيقية لدى كولريدج:  

يظهر لنا كتاب كولريدج “الشعر والنثر” . . . في صفحة 609  المدخل الوحيد الذي يهدف إلى تجسيد اهتمام كولريدج مدى الحياة بالنساء, والمشتق عموماً من محادثة متأخرة في كتاب “حديث المائدة” 1835 (1، 212-213)، المسجلة في 27 سبتمبر 1830 من قبل ابن شقيق كولريدج، والمستخرجة بما  يشبه السياق الفكاهي. يشير كولريدج على ادراك  شكسبير أن “كمال المرأة يكمن في كونها بلا شخصية. اذ يحلم كل رجل أن تكون ديدمونة أو أوفيليا زوجة له، فهي مخلوقات تشعر بك وتثير مشاعرك دوماً, ، على الرغم من أنها قد لا تفهمك دوماً.” وبامكاننا تصور  الضحك الصادر من الحضور الذين يعرفون تاريخه مع  النساء. ان  فكرة الانتحار والضغوطات النفسية هما نتيجة الزواج من تلك الزوجات (المثاليات), وتلك السطور الخمسة لا تكفي لانصاف كولريدج ورؤيته للنساء.” (كولريدج الايروتيكي, ص 189, ترجمتي بتصرف)

من منطلق النوع الثاني من النساء, المرأة التابعة لذاتها, نتبين في ما  اجتمعنا عليه بان شكسبير لا يمثل في مسرحياته رأياً شخصياً او خاصً بعصره بل انها رؤية مجتمعية تاريخية ذكورية اجتمعت في صور مختلفة الشخصيات مع نفس النمطية التشكيلية الثنائية مهما اختلفت البنية الذكورية لأي شخصية ذكر في المسرحية الشكسبيرية. هذا ما يجعل طرح الرؤية التاريخية هو ذاته الرؤية الشكسبيرية, وهو ما يفسر سبب بقائها وتجديدها مهما تقدمت العهود والعصور والاجيال. وتقتصر الرؤية الذكورية التاريخية على ان هناك مِلكتان اساسيتان مفقودتين عند المرأة, سواء كان من قبل المجتمع او من قبل تكوينها: مِلكة الهوية (Identity Faculty) ومِلكة القدرة (Ability Faculty), ومجرد محاولة المرأة امتلاك اي من هاتين المِلكتين فهي تخرج  عن كونها تابعة لقوانين العالم, وتكون بذلك تابعة لنفسها.

يعتبر الترابط بين هذين الملكتين ترابطاً متتالياً سببياً ومرتبطاً, حسب الرؤية الذكورية, جوهرياً منذ اللحظة الاولى لوجود اي امرأة في هذه البسيطة, اذ ان سبب فقدانها مِلكة القدرة هو فقدانها لمِلكة الهوية, وسبب فقدانها مِلكة الهوية يعود لكونها امرأة ستنتقل اجتماعياً من عائلتها الى عائلة اخرى, مع تحويل اسمها لاسم العائلة الجديدة كما في المنظور المسيحي او حتى عدم تسمية اي انتاج بيولوجي منها باسمها بل باسم الاب كما تشترك المسيحية مع الاسلام فيه, ويكون جزء من هذا الفقدان شاملاً جندرياً كون اسم الفرد بذاته لا يحصل عليه الا من خلال عائلته الا ان الفرق الوحيد هو حفاظ الذكر على اسم ولقب دمه عكس المرأة. يشرح اللغوي الامريكي ايرنست بولجرام في كتابه “نظرية الاسماء” (Theory of Names) موقف ارتباط الهوية الذاتية بالاسم الذي يحصل عليه الفرد من ناحية, والتغييب الجندري الذي حدث للمرأة بالتشكيل الحضاري بعدم اعطائها مميزات الهوية من ناحية اخرى:

لكل مجتمع طقوسه وممارساته لتسمية مولودها الحديث, فأول شيء يتعلمه الفرد, سواء بلغته الام او اللغة المكتسبة, هو كيفية التعبير عن هويته. ان اللاأسمية (Namelessness) هي الوجه الاخر للعار, فهي نابعة من اصل الكلمة in-(g)nomen اي الذي لا اسم له. كان المواطن غير الروماني (والنساء سواء من روما او من خارجها) بلا اسم حسب القانون الروماني, فهم محرومون من ميزة الهوية الرومانية الممنوحة للرومانيين الذكور فقط.” (نظرية الاسماء, ص ,151, ترجمتي)

انها الرؤية الشمولية لكل الحضارات التاريخية تجاه المرأة وان كانت تختلف من حضارة لأخرى, بل ان هذا  التطرف النظري يبلغ اعلى مستوياته في الحضارات الغربية مذ نشأتها وحتى ولوج المسيحية في اعماق مجتمعاتها. هذا ما يجعل لدينا تفسيراً واضحاً لفكرة التهميش التعريفي الموجود في الادب الشكسبيري, فهو رؤية غربية تاريخية ومسيحية ايضاً. بل ان اهتمامه المعكوس على الجيندر الذكوري في مسألة الهوية نراه مبرراً ايضاً لدى بولجرام في قوله: “ان اسم الرجل في مشوار حياته كظله, فهو ليس بجوهر امتلكه او روح وهبت له, بل انه يعيش معه ومن خلاله.” (نفس المصدر, ص149). ولا نستطيع قول نفس الشيء للمرأة كونها منزوعة الهوية وان امتلكتها لفترة من حياتها, بل حتى الهوية الثانوية التي تمتلكها موضوعة لأجل الضرورية المجتمعية التي تتطلب شيفرة (Code) يمثلها امام من حولها. تؤكد الكاتبة النسوية والفيلسوفة ماري دالي في كتابها “ما بعد الله الأب” (Beyond God The Father) كمية التهميش الجندري الذي حدث في اوروبا تاريخياً وتحت العباءة الدينية, لدرجة سلبها ابسط الاشياء واهمها وهي الاسم او الهوية:

لقد سُلِب من المرأة قدرتها على تسمية الاشياء, بل لم نكن احراراً حتى في تعريف ذواتنا او العالم او حتى الله. وان التسمية الاولى لم تكن نتيجة حوار قط, وهي  حقيقة عُبِّرَ عنها في سفر التكوين على نحو  غير مقصود, تحديداً في قصة تسمية  ادم للحيوانات والمرأة. لقد ادركت النساء اليوم مدى زيف الفرض الذكوري في تسمية الاشياء كون التسمية جزئية لا اكثر, ما يعني اعتبار مجموعة من الصيغ الغير كافية صيغاً كافية لها.” (ما بعد الله الاب, ص 8, ترجمتي)

فهمنا الان جوهر الدوافع ومفتعلات الاسباب لوجود شخصية مسلوبة الهوية في مسرحية ماكبث, خصوصاً وان هذه المسرحية قد تم كتابتها بعد انتهاء العصر الاليزابيثي اي سنة 1603, ما يعني ان اول محاولة لشكسبير في اظهار المرأة التابعة  لنفسها من خلال التأكيد على ان هويتها المفترضة تكون لذكر, وهي  باختصار  شخصية السيدة ماكبث. ولن يكبدنا شرح مِلكة القدرة ذاك المجهود كما تطلبه مِلكة الهوية, فمن لا هوية له لا قدرة له لفعل اي شيء, لكن ما نحتاجه هو فهم كيفية ترابط مِلكة الهوية مع مِلكة القدرة من جانب, وكيف ظهر غياب مِلكة القدرة واقعاً مفروضاً من جانب اخر. بيد ان المرأة التابعة لنفسها كما هي تتصنع هويتها, فهي تتصنع  قدرتها على فعل ما  يفعله الرجل, وهو ما قام شكسبير باختصاره ايضاً  في شخصية السيدة ماكبث, الا اننا نحتاج رؤية هذه المِلكة من زاوية ابعد للاستدلال الاقوى للمتلقي.

تتمثل مِلكة القدرة للشخصيات النسائية في  مسرحيات شكسبير بشكلها المثالي  والمناسب  المعارض للتحرر النسوي, وهي رؤية  عصره الشاملة حتى عند الملكة اليزابيث حسب الادلة التاريخية. هذا  على المقياس الظاهري, اما الباطني فيرتكز على برز العجز النسائي على شكل مقارنة دورية مترابطة في  مسرحيات متعددة لدى الاديب باختياره. أن رؤية بورشيا (مسرحية تاجر البندقية) قادرة على تخليص انطونيو من حكمه لم تكن كافية, فكونها امرأة هو ما يمثل عجزها عن المثول  للمحاكمة كجزء منها, بالتوازي  مع رؤيتنا كورديليا (مسرحية الملك لير) التي كان  تمردها غير المباشر متمثلاً بعدم تملقها كأخواتها لأبيها, ما يعني  انها ليست  عاجزة للخضوع للعادة الجندرية فتخرج عن العقيدة الكونية من قول  ابيها الملك “اعلن من هنا براءتي الابوية نسباً ودماً وروحاً تسكن قلبي.” تشير الصور الادبية السابقة على نجاح شكسبير بالحفاظ على سمعته الذكورية في عصره مع الاكتفاء بالإشارات التاريخية بأسلوب جبان لما يعارضها او حتى لما يميزها في عصره, وهذه الاشارة التاريخية تمثلت بطريقة الميتاثيتير (Metatheatre method) حين استخدمها في مسرحية حلم يوم صيف و  مسرحية هاملت, وخصوصاً في الاولى اذ تمت مناقشة  دور ثيسبي, شخصية العشيقة في مسرحية الميكانيكيين, لتحديد من يأخذ هذا الدور حتى وقع الاختيار على فرانسيس فلوت, وهذه حقيقة انعكاس حالة المسرح الاوروبي آنذاك اذ لم تصعد النساء خشبة المسرح قط, وهكذا يحقق شكسبير اشارته التاريخية بدون ان يمس حاضره او مستقبله شعره!

سعت فيرجينيا وولف, الاديبة الانكليزية المعروفة, ازالة الضبابية الموجودة في ما  طرحناه بهذا  الخصوص وبطريقتها الخاصة, فهي احد الكاتبات النسويات اللاتي بذلن الجهد الكبير في فهم التركيبة الذكورية التاريخية وكيفية تشكيلها للأدب العالمي, فتوصلت الى مفهوم بسيط يختصر هذه القصة الذكورية باسم- و يا لسخرية اسمه –اخت شكسبير  (Shakespeare’s sister) , والذي قامت بطرحه في كتابها (غرفة تخص المرء وحده), واذ  تختصره بالقول:

وقد يكون  ذلك حقيقياً أو لا يكون – من ذا يستطيع الجزم – ولكن ما هو حقيقي, أو هكذا تراءى لي, وأنا أستعيد حكاية  اخت شكسبير كما ألفتها, هو أن اي امرأة ولدت  في القرن السادس عشر وكانت لها موهبة عظيمة لابد أنها فقدت عقلها او رمت نفسها بالرصاص, أو انهت حياتها في كوخ وحيد خارج القرية, نصف ساحرة, نصف ساحر, يخافها الناس ويسخرون منها.” (غرفة تخص المرء وحده, ص100)

استطاعت وولف اختصار المشهد التاريخي والادبي في هذا النص, مبررةً بطريقة غير مباشرة اسباب ظهور الشخصيات النسائية التابعة لنفسها كشخصيات متصنعة القدرة والهوية, فهن محرومات من مِلكة الهوية ومِلكة القدرة كما يطرحه الواقع ويعكسه شكسبير, وهذا ما يكفي لنستدل على  حقيقة اهم شخصية نسائية في المسرح الشكسبيري, وهي سيدة ماكبث, مشتركة مع الساحرات النساء كقوة جندرية استطاعت تغيير المشهد بأسلوب مختلف  عن كل المسرحيات التي تحمل شخصيات نساء تابعات للعالم.

ليس بكافٍ الاستدلال المنفصل لكل مِلكة وعلاقتها بالتصور النسوي الادبي, فقد أكدنا في  شرحنا مدى ترابط  المِلكتين معاً  في تكوين  صورة المرأة  التابعة لنفسها, خصوصاً وان شكسبير قد  وفر هذا  التصور ايضاً ولم يبخل به! ان الاشارة التي تُظهر فقدان المرأة  للمِلكتين معاً  نجدها بارزة في مسرحية (روميو وجولييت) حين اعلن الطرفين  استعدادهم للتخلي  عن نسبهم لأجل الحب, فهذا المشهد يطرح بصورة مباشرة الاعتقاد المسيحي والاوروبي لهوية المرأة وامكانياتها, لأنها لا تحتاج ان تعد بالتخلي عن هويتها لاجل محبوبها كون هذا الشيء مفروض الحدوث, ولا تستطيع المناداة بقدرتها على فعل ذلك كونها لا تملك القدرة نفسها لفعل العكس. تعوّل لوري ماغيري (Laurie Maguire), الاستاذة الكندية في جامعة اكسفورد, على هذه الجزئية في كتابها أسماء  شكسبير (Shakespeare’s  Names) موضحةً مدى الترابط الديني  والتاريخي  والاجتماعي مجتمعة في هذه الحادثة الدرامية:

يصوغ التقليد المسيحي الزواج باختصار على انه اكتساب هوية باللحظة التي  نفقد فيها هويتنا, بالضبط مثل ما جاء في رسالة افيسس. ما يعني, بمنظور  المجتمع الأبوي, هو اللحظة التي تتجرد المرأة فيه من هويتها الموهبة من عائلتها لتحصل على هوية زوجها. ذلك بالضبط ما تظهره مسرحية روميو وجولييت, فالعاشقان يظهران قدرتهما على التخلي عن اسماءهم لأجل الزواج كما تقول جولييت (تخلى عن اسمك, فان لم تفعل, لن اكون بعدها من ال كابيوليت).” (أسماء شكسبير, ص54)

بات واضحاً  ومفهوماً ان المرأة التابعة لنفسها هي الجنس الخبيث من النساء والنادر ايضاً بندرة وجوده في الادب الشكسبيري, فهي كل امرأة تحشر نفسها  في  المسائل المصيرية والقيادية وتعنى بشؤون ذكورية كما يعتقد الجميع, جاعلة ذاتها خالية من الصورة الانسانية الحقيقية كون لا صورة لها غير صورة العالم, وان السيدة ماكبث (Lady Macbeth)هي المعيار العام الذي وضعه شكسبير للأدب وللبشرية, فهي احد الدلالات البارزة على التأثير النسوي غير المباشر الذي تسعى لخلقه كونها  عاجزة ان تكون ذات اثر مباشر, كما يشاركها كل الشخصيات التي اشرنا لها في هذا المقال.

بالتأكيد ان تساؤلاً ما قد احتل عقل القارئ العزيز, وخصوصاً النساء,  بعد كل  ذلك, وهو هل تمتلك المرأة فرصة للتحرر والانخراط والتوازي تاريخياً وادبياً  مع الادباء الذكور؟ خصوصاً وان تشبع العالم بالمنظور الذكوري صعب كسره كون ان الكثير من الكتّاب المعروفين يحملون نفس الفكر ويدعمونه. ولا شك ان اجابة هذا  السؤال تتطلب بحثاً منفصلاً بأكمله ليعطيه حق  الاجابة, الا ان باستطاعتنا اختصار الاجابة من خلال تذكير القارئ بنهضة  نسوية على مر القرون قادتها كاتبات نسويات النزعة ومخالفات لكثير من الافكار الذكورية, سواء التي  دعمها شكسبير او غيره, من خلال انتاجاتهم الادبية, متحدين كل الظروف التي رسمت حرمانهن من ذلك وموضحات في نقدهن  هذه العوائق, فيكفينا معرفة  شارلوت برونتي وكفاحها  الادبي الذي  اجبرها ان تعلن عن روايتها جين اير (Jane Eyre) باسم ذكر الى ان استطاعت نشر اسمها فيه, بل ان اعلان ليزا في مسرحية بجماليون لجورج برنارد شو: “كل فتاة لها الحق بان تعشق.” رداً على كلام هيغينز: “لا تملكين من الحق لتدعميه” بشأن عشيقها فريدي احد الشعلات المضيئة التي سمحت بإعلان رفض رسمي من المرأة, فكلمة العشق هنا لم  تكن سوى اشارة لأي شيء تريده المرأة بإرادتها الحرة, اذ بإمكاننا استبدالها باي حق تمتلكه المرأة على حد سواء. وتجيب عنا وولف في  كتابها “غرفة تخص المرء وحده” نفس الاجابة بطريقتها واسلوبها المميز وتقول:

ها هو ذا الامر اذن, الحرية الفكرية تتوقف على الاشياء المادية. والشعر يعتمد على الحرية الفكرية. النساء كن دائماً فقيرات, لا لمدة مائتي عام فقط ولكن منذ بداية الخليقة, وكن أقل حرية فكرية من أبناء العبيد في أثينا. النساء اذن لم تكن لديهن اقل فرصة لكتابة الشعر. هذا هو السبب الذي جعلني أؤكد كل هذا  التأكيد على ضرورة النقود والغرفة الخاصة. ولكن الفضل يعود الى جهد اولئك النسوة المغمورات في الماضي. اللواتي اود لو أعرف عنهن أكثر.” (غرفة تخص المرء وحده, ص 197)                                                                                                                

ختاماً نقول,  وان لم تتح لنا الفرصة لطرح كل الصور لشكسبير بهذا الخصوص, لم يكن الهدف من كل ما جاء في هذا المقال هو استعمال تصور شامل عن  الماهية النسوية ونربطها بتشكيل الاديب الخاص لها, بل الذهاب الى تعميم هذه  الميزة الادبية على كل فكرة ورأي يمتلكه الاديب, بدليل اننا اليوم نمتلك ادباً مثلياً وادباً  عنصرياً وغيره من  الادب الذي يحمل افكاراً شاذة تمي بالمجتمع بعيداً عن  قدسية الادب وحجمه. ان التاريخ, برغم طغيان واغلبية الفكر الشمولي فيه, يحمل في طياته ايضاً محاولات جدية للاستدلال على ان قدسية الفن والادب ترتكز في طريقة ابراز الموضوعية المرادة بصورة ادبية كاسرة للازمان, وأحد هذه الدلالات الادبية الخالدة نجدها في مقطوعة ملحمة كلكامش الني بينت بروز الفكر الالحادي حين سعى للخلود وتمرد على الالهة, اذ ان ميزته تتمثل في تناول الموضوع بصورة متسلسلة استنتاجية وليس بصورة لاهوتية متعصبة تنتهي تحت حكم الثواب والعقاب

اضافة الى ذلك, تبرز رؤية شكسبير كل مرة المرأة بطريقة توحي انها تدرك  تبعات اتباع امرها ونفسها وتعرف  انها مركز الشر, لذا  نرى طبيعة  النساء تكون دوماً تابعة وليست متبوعة, فان تبعت  نفسها هلكت  وان  جعلت غيرها يتبع نفسها هلك ايضاً, وهذا بعينه شامل بكل  الصور السياسية والاجتماعية بل وحتى الفانتازيا الموجودة في الادب الشكسبيري. وهذه رؤية تكاد تشمل ملكة انكلترا, اليزابيث,  في  معيار شكسبير  المطروح, فهي المؤثر البارز والحقيقي في اغلب الصور الجندرية المتكونة في  الادب الشكسبيري,  كونها حكمت وماتت  بلا  زوج.

وبالنهاية, فان الرسالة المحورية لهذا المقال ترتكز على اهمية فهم الطرح الادبي من قبل المتلقي لكي يعرف خفاياه وتأثيراته في اللاوعي  البشري, فالهيئة (the figure) التي  تحاول السينما اليوم صنعها عن المرأة هي ليست بعيده عن التصورات الشكسبيرية الجدلية, بل ان الاخيرة هي ما دفعت باقي الحركات الشاذة لشق طريقها وتمثيلها كأسلوب ادبي محض, فحساسية الرجل من سيدة ماكبث ليست كحساسية المرأة بالرغم اتفاقهم على شخصية جولييت وديدمونة واوفيليا, ذلك ما نقصده تماماً برسم عقل المتلقي, وهو ما سينتهي بعد فهمه ووعيه بواطن تلك الصور  وخفاياها سواء جاء ذلك بإمعانه بتلك الصور او فهمه لما شرحناه ونقدناه في هذا السياق النقدي المطروح.

شاهد أيضاً

الزاني وبعض مسببات تلك الفاحشة

كتبت : منى فتحي حامد – مصر لقب يطلق على إحدى الشخصيات الغير سوية، تتعايش …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.