كتب: أمجد حميد-العراق
يولد الانسان ولا يملك سوى فطرته كالحيوانات تماماً, اذ سيتعلق بمن يراه امامه لكي يحصل على ما يحافظ على حياته مستمرة, واستمرار ذلك منوط على تركيبة الانسان البيولوجية بشكل عام وحياته وطبيعة قراراته بشكل خاص , فهو لا يملك الادوات الفعلية ليتأكد في بداية مشواره ان من يعيشون معه تحت سقف واحد هم والداه الحقيقيان بيولوجياً, بل ان ثوراته العفوية المتمثلة بالبكاء والغضب والرفض هي ليست الا اساليب فطرية ايضاً كونه لا وسيلة له اخرى كي يجبرهم لشراء قطعة من الحلوى لهُ! ويتكامل المشهد العائلي حين تتنامى في داخل هذا الضيف الكوني الجديد مشاعر تعلقيه لا ذاتية, فهو سيشتاق لمن لا يراه طول اليوم وسيمر بشعور الفقدان لو حل في مكان ليس فيه من يراها طول اليوم, واهم المشاعر بينهم هو شعور الاحتياج, فهو الشعور الاسمى والمسؤول عن حدة وضعف كل المشاعر السابقة, فحتى شعور الخذلان لا يتغذى الا على شعور الاحتياج, فكلما راينا الاخير في مستوى متزايد سنجد الاول يزيد معه بنفس المستوى, وفي الحالات التطرفية سيؤدي الخذلان الى الانتحار احياناً كونه لا يرى حياة بدونهما او لأنه لا يستطيع الاعتماد على نفسه الا من خلالهما.
ولان الانسان حين يريد تركيب الاواصر الجماعية يعتمد بشكل اساسي على اصغر دائرة يمتلكها, نجد المكون المجتمعي مهما بلغ رقيه وثقافته سيحمل هذا الاس معه وهو اس الحاجة لأنسان يحمل المكون الاسمى – بنظر المجتمع بشكل رئيسي – ليلتجئ اليه في محطاته التاريخية العصيبة, فهو في كل حدث تاريخي سينتظر تلك اليد العليا التي يستطيع من خلالها الخلاص من ما حدث له, بل قد يحصل العكس ويصنع بمن يضطهد حياته ويسلب حقوقه بطلاً تاريخياً كما سنرى لاحقاً. و قد تختلف طرق التعبير عن هذا المفهوم المجتمعي الميتافيزيقي الا ان المصطلح العام الذي نراه مناسباً له من خلال ما اقتبسناه من بداية مشوار الانسان هو “القدوة.” ان ما نسعى لشرحه وتحطيمه لهو اعمق واكبر من ان نكتفي بوصفه بهذا الشكل, لان قدوة المجتمع والكائن الاسمى فيه قد ازدادت متطلبات تكوينه و ترسيخه في كل حقبة تمر بها البشرية. وهنا تتمثل القضية الاساسية في هذا البحث وهو معرفة ما مفهوم القدوة ولما اصبح المجتمع يرى حتمية وجود قائد – سواء كان خيالياً او حاضراً في ايامه – يقوده وكيف سنتجاوز هذه الحالة التاريخية البشرية.
تُرتسم ملامح التعريف من خلال الصورة المأخوذة من الشرح السابق على انه الاعتقاد الجمعي او الاتجاه الفردي الذي يؤمن بوجوب وجود او امكانية وجود قائد مجتمعي او مثل اعلى فردي مثالي في عيون من يتبعه يكون اسطورة عصره والعصور التي تليه او حتى في حياة التابع او المتبع سواء على صعيد المجتمع نفسه او على صعيد مجتمعات مختلفة. و نعني بالاعتقاد الجمعي هنا الاشارة الى الفئات النخبوية والمفكرين كجزء من هذا المعتقد وشموليته, فحتى ذوي العقول النيرة لم تتمرد ملكات عقلهم على وهم القدوة الذي يرسم طريقة تفكيرها وابداعها, فهي منذ القدم تؤمن بفطرية الاتجاه المجتمعي لاعتبار من يحكمونهم هم بمثابة قدوة لهم كمثل والديهم, واقدم شاهد نلتمسه عند افلاطون وكتابه “الجمهورية” حين يقول:
“سقراط: لكن الا يوجد اسم اخر سيعطيه الشعب لحكامه في الدول الأخرى؟
كلوكون: سيدعونهم أسيادً بشكل عام, لكن في الدول الديموقراطية سيدعونهم حكاماً بكل بساطة.
سقراط: وأي اسم سيطلق الشعب على الحكام في دولتنا بجانب ذلك الاسم ((مواطنين))؟
كلوكون: سيدعوهم منقذين ومساعدين.” (الجمهورية, ص226)
هذا ما يفسر ببساطة ميل افلاطون للقول “ أن العدالة السياسية والسعادة البشرية تتطلبان من الملوك أن يكونوا فلاسفة أو من الفلاسفة أن يكونوا ملوكاً” لان المفهوم القيادي مهما بلغت ديمقراطية شكله فهو يحتاج دوماً لشخصية مميزة في عيون الناس تؤهله ليكون في هذا المنصب السياسي والمجتمعي, وان مفهوم الانسان الاعلى ضروري وحتمي في عقل المفكر قبل عقل المجتمع, لان المفكر غير قادر على تخيل الخلاص المجتمعي بدون انسان اسمى من الوجود المجتمعي ذاته, حتى وان اضطر ان يعتبر ذلك خيالاً غير قابل للتحقق.
يستلزم توكيد التعريف تبيان الاسباب الحقيقية وراء نشوء وتكوين فكرة القدوة دينامياً في المجتمعات البشرية وكيف هيمنت في المجتمع العربي بشكل اكثر من نظرياتها في العالم. وصحيح اننا قد بينا في بداية الحديث ان الامر منوط بشكل ديناميكي بنشأة الانسان وتربيته كونه لا يريد التخلي عن المراحل الطفولية في حياته المتميزة بقلة المسؤوليات الفعلية واللجوء الدائم لمن هو اعلى منه بنظره, فيطبق هذا الجانب على باقي حياته من ناحية العمل والعائلة والسياسة حتى. ولا تبدو هناك صعوبة لتحديد الاسباب الخفية وراء هذه الطبيعة الجمعية الا اننا نؤكد ان الفاصل الاساسي الذي يحدد وجودها هو المرحلة التاريخية ومعطياتها, فالتاريخ القديم في بدايته يحمل الطبيعة البدائية الخشنة والصعبة حتى في اعرق الحضارات الانسانية والتي ترى دوماً الحاجة لوجود مسؤول اعلى مقدس يحميهم من شرور العالم, فنجد الاغريق قد افرطوا في صنع الهة لهم, والذين يحملون من القدرات الخارقة ما يتنافسون بها كالبشر, والتي كانت المادة الغنية والمفيدة لصنع ابطال الملاحم الهوميرية الشاهدة الى اليوم على حلم العامة بالأبطال المنقذين المثاليين. اما الجانب الشرقي فالطبيعة البدوية او الصحراوية بشكل عام تؤكد ايضاَ ان الانسان الاعلى داخل عقل المجتمع كان ذا ميزات دينية دوماً حتى في عصور الديانات التوحيدية, بل ان المعارك والحروب دوماً ما تكون المدرسة المثلى لصنع مثل هكذا قدوات للمجتمع ليطمئن بالهم على مستقبلهم.
في الجانب الاخر, شهد العصر الحديث انتشالاً مادياً نسبياً وضمور مجتمعي في مسألة القدوة في الجانب الغربي نتيجة التطورات التكنولوجية الحربية وبدء العصر النووي, فالمجتمعات الغربية بعد الحربين العالميتين لم تعد تنظر لمفهوم القدوة بالشكل الذي تراه المجتمعات العربية الى يومنا هذا, بل اصبح هناك عالم اخر وفئة مجتمعية اضافية امتلكت هذا التوجه وحملته على عاتقها, وهذه الفئة هي المراهقين والشباب الذين يتجهون دوماً لتقديس المشاهير والفنانين والمؤثرين في واقعهم الشبكي المتمثل بمواقع التواصل الاجتماعي, وهذا ما حول الاتجاه السياسي بان يكون جانب اقتصادي في تعامله لتعبئة هذا المفهوم مجتمعياً من خلال لبس المؤثرين وافكارهم وحركاتهم ومحتواهم وغيرها. اما الجانب العربي, فقد استمرت فكرة الانسان الاعلى في المجتمعات العربية بالتزايد كونها لم تحظى بذلك الاستقرار الفكري المجتمعي الذي يريحها نسبياً من التفكير في منقذ, خيالي كان او واقعي, على جانب عام او جانب معتقدي, ديني, قومي, فكري, او حتى حزبي سياسي خاص, فمن بعد سقوط الدولة العثمانية ونحن نشهد كل يوم املاً عربياً ومحاولة تصديق وتشبث بكل شخصية تظهر للعلن مصورةً نفسها القدوة والمثل الاعلى والمنقذ للسقوط العربي العالمي, وسنعرض جزءً من هذه الشخصيات لاحقاً والتي سنستدل من خلالها ان الصعود العربي منوط بالتخلص من هذه الفكرة وليس ايجاد الشخص الصحيح ليحل محلهم. اما على صعيد تطور المفهوم بشموله الفئة المراهقة والشابة فقد حظيت المجتمعات العربية بهذا المستوى على صعيد مؤثريهم العرب و المؤثرين العالميين ايضاً, اي ان روح التطرف في تعبئة هذا المفهوم للأسف تم استغلاله ايضاً وبصورة اكبر من المجتمعات الاوربية ليكون عند الحكام والسياسات العربية عبارة عن مخدر مجتمعي فعّال لتجنب النهضة الفكرية المجتمعية ولفترة طويلة.
سنبعد القارئ عن الجوانب الايجابية التي خلقها هذا المفهوم تاريخياً لأنها مفهومه نوعاً ما وامثلتها التاريخية المتمثلة بأبطال تاريخيين معروفة ايضاً, فكل بلد او مجتمع كان له في التاريخ من الشخصيات التي خضعها تحت هذا المفهوم, الا انهم كانوا على قدر من الحكم والابداع والمصداقية ليستحقوا هذه التبعية المجتمعية, و يتمثل سعينا باثبات ان حقيقة القدوة, مهما بلغت مصداقيته, فلا نملك توقعاً جازماً على عدم تغير صفاته السامية المعروفة, لذلك فنحن نستهدف في حديثنا المجتمع التابع وليس المتبع بالدرجة الاساس في هذا البحث. اما الجوانب السلبية التاريخية لهذا المفهوم فهي تطغى بشكل كاسح على ما قدمه هذا التوجه العقلي المجتمعي بشكل مؤكد, فصنع خططاً ومحاولات استغلالية نفذت في عقول المبدعين والمفكرين ايضاً ليكون اداة قادرة على تعظيم وتعزيز مكانة القدوة بغض النظر عن سلبياته الشاملة. وينطبق التقسيم التاريخي على الشكل الاستغلالي ايضاً اذ تعددت وتطورت منابع الاستغلال ما بين التاريخ القديم والحديث في شكل وتركيب وصفات وماهية القدوة او المثل الاعلى. ان الانطباع المتوقع الذي خلقناه من تركيبة العهد القديم هو ان قوة وتماسك فكرة القدوة في اذهان التابعين متوازية مع قوة الشخصية ووحشيتها –سواء على شعبه او على الشعوب الاخرى –وقدرتها على اخضاع اي تمرد او قوة داخل او خارج اسوار حكمه. وغلبة المشهد التصوري المعروف هذا جعل فكرة الحكم تستند بشكل اساسي على قدرة الحاكم في اخضاع شعبه او حتى الشعوب التي تنتمي له بعد الحروب ان قرر من الاساس بقاءها حية, اذ نرى هذا المبدأ واضحاً حتى عند اشهر المنظرين السياسيين المعروفين ومن ضمنهم نيكولا مكيافيلي الذي يعتبر وكتابه “الامير” احد الادلة الدامغة على ان تشكيل شخصية الحاكم يعني ان يكون مثل اعلى معقد ومخيف بالنسبة لشعبه او شعوب العالم:
“ومن يصبح حاكماً لمدينة حرة ولا يدمرها فليتوقع أن تقضي هي عليه, لأنها ستجد دائماً الدافع للتمرد باسم الحرية وباسم الاحوال القديمة. وهي اشياء لا تنسى بمرور الزمن ولا بما يناله أهلها من مزايا.” (الامير, ص36)
يؤكد مكيافيلي في هذا النص ان الحاكم الذي لا يُرى في عين من يحكمهم, سواء كان بلده او بلد تحت سلطته بالقهر, كقائد ومخلص وقدوة ومثل اعلى لن ينجح حكمه ابداً, ويميز كلام مكيافيلي انه يمثل دائماً الاوجه الحديثة او المتقدمة, فهو حين يعين فكرة ابادة المجتمع المعني بحكمه كون هذا المجتمع ملزم بديمقراطيته, فهذا الوجه نراه حياً الى الان اذ حتى الدول الاستعمارية المتمثلة بحكومات برلمانية نراها تملك مثل هذا التوجه, بل ان الشعوب المغلوبة في الغالب لا تثور عليها الا في لحظة انبثاق قائد يحمل اعباء التحرر والانتصار ويكتفي الشعب بتضحية الدم لا غير.
لم يختلف المشهد في العهد الجديد كثيراً في جانب صياغة وتعبئة هذا المفهوم مجتمعياً, الا انه تشعب وصار مرتبطاً بشكل وثيق بنوع المجتمع وطبيعته, فالمجتمعات الاستعمارية تختلف بالتأكيد في استغلالها لمفهوم البطل والقدوة عن المجتمعات المستعمرة او الباحثة عن التحرر, وقبل عهد التكنولوجيا السحابية كانت الجوانب الاستغلالية معدودة عكس العهد المعاصر الذي اصبحت المناحِ غير محدودة نسبياً. ولاستحالة الدخول في تفاصيل جميع المحطات واشكال الصياغات المجتمعية لمفهوم القدوة خصوصاً ان اضفنا الجانب الغربي سنكتفي بإظهار الجوانب التطورية لهذا المفهوم في الجانب الشرقي والعربي فقط, لان اهم الميزات الجديدة التي اضيفت في تشكيل مفهوم القدوة والمثل الاعلى في هذه المجتمعات هي الاقتباس الكامل او الجزئي من الشخوص القيادية والمعروفة الغربية في كل عهد من المجتمع, لان الطابع الاستعماري قد استغل ايضاً هذا الجانب في تعزيز حكمه وسيطرته على المجتمعات بتطوير فكرة مكيافيلي الانفة الذكر. احد الاشارات التي تثبت ميل الجانب العربي في تشكيل صورة قياداتهم على النمط الغربي نراه واضحاُ في كتابات محمد حسنين هيكل الكثيرة, ومثال على ذلك نجده في كتابه “عبدالناصر والعالم” اذ يقول فيه:
“وكان العالم العربي معجباً بألمانيا وكان هذا الاعجاب ينبثق من عدد من الاعتبارات: فقد كان اول من عزل فيروس البلهارسيا عالماً ألمانياً أطلق اسمه على الفيروس . . . وكان العرب معجبين بألمانيا – بشكل خاص – بسبب انضباطها وقوتها والطريقة التي بنت بها كيان وحدتها من مجموعة من الدويلات ذات لغة مشتركة وتراث مشترك ولكنها كانت عديمة القوة الى ان التحمت أواصرها وانصهرت في بوتقة الوحدة “الجرمانية”. وعندما كان العرب يتدارسون طريقة تحقيق وحدتهم كان بعضهم يتطلع احياناً الى القدوة الألمانية والنموذج الالماني.” (عبدالناصر والعالم, ص375 )
من خلال كلام محمد هيكل نستطيع ان ندرك كيف بدأت الحكومات العربية والاتجاهات السياسية الجديدة تستغل و تسيطر على المجتمعات العربية بشكل واضح, لان محمد هيكل يعتبر ضحية مفهوم القدوة ايضاُ اذ انه كان المفكر المدافع الدائم والمساند لعبدالناصر وافكاره, فقد كرّس حياته كلها لأجل ذلك حتى بعد ممات عبدالناصر, اذ بالرغم من وجود شخصيات تدافع عن الاخير للان فهم لم يبلغوا ما بلغه هيكل. هذا الاستنتاج تخضع له كل شخصية تاريخية في القرنين الاخيرين وتحت مبدأ نطلق عليه: مبدأ التقليد لأجل صناعة القدوة المجتمعية, اذ انه المنبع الاول لصنع الاستغلال المجتمعي عند العرب حتى لو لم يكن هناك جانب تقليدي عند هذه الشخصية, فقدوة عبدالكريم قاسم اتت من تقليد جمال عبدالناصر, وقدوة صدام حسين كانت حزب البعث بتشكيله وحتى عبدالكريم قاسم بطموحاته وهلم جرى, الى ان اصبح الذي يريد العيون العربية تتجه له يحاول تقليد من اتجهت العيون اليه في الغرب او ما خلفته الحركات العربية في زمانه من اثار ليكملها ويرممها ويؤسس عليها سلطويته.
على الرغم من غلبة مبدأ التقليد الفكري لرسم حدود مفهوم القدوة, الا ان مبدأ اخر قد انبثق من المبدأ الاول, والمبدأ الناتج هو مبدأ التنظير الخلاق. يتوازى المبدآن تقريباً في صناعة الصورة النمطية لمفهوم القدوة عند العرب وخصوصاً في العقود الاخير و غالباُ في التوجهات الدينية السياسية, ولم يكن في توازيه مفصولاً عن المبدأ الاول بل كان يحمل ظاهرياً طابعاً استقلالياً عن التبعية الاجنبية, الا اننا سنثبت لاحقاً ان التنظير الخلاق كان ايضاً ذا ركائز تقليدية خارجية. ولان الاتجاهات السياسية على المستوى الفكري معدودة ومحدودة جداً ابرزها حزب البعث الاشتراكي المعروف في الحقبة الاخيرة, نرى غلبة الجوانب الدينية في التنظير الخلاق على مستوى اعلى من الاتجاهات السياسية الفكرية, ولكي لا نتجاوز الاتجاهات السياسية في استخدامها الاستغلالي لهذا المبدأ سنعطي للقارئ مثال عام عنه متمثلاً بمفكر حزب البعث المعروف وهو ميشيل عفلق, فما يختلف فيه عفلق عن هيكل انه لا يبرر احداث وافعال الاتجاه والحاكم الذي يتبعه بل يحول الممارسات السياسية الى قواعد نظرية مؤدلجة تكون مبرراً لكل ما قد يستجد او يتكرر من تبعات هذه الممارسات, ويعتبر عفلق احد الادلة الاضافية لتورط اصحاب الملكات الفكرية والابداع في مسالة تشكيل وتنظير مفهوم القدوة والمثل الاعلى مجتمعياً, فعلى الرغم ان الرسالة الفكرية التي اوجدت حزب البعث الاشتراكي كانت مجتمعية على مستوى عام فقد خضعت ايضاً لهذا المبدأ لكي تثبت جذورها في المجتمعات العربية قدر المستطاع, و نستطيع ان نلتمس ذلك في كتاب عفلق المعروف “البعث والعراق” اذ نرى فيه ثنائه المفرط على صدام حسين و تصويره كقائد مخلّص ومثل اعلى لهذا الحزب, ويتضح ذلك في رسالته لصدام في ذكرى تسلمه الموقع الاول في الحزب والدولة:
“ان هذه الصورة الحية للديمقراطية بمضمونها السياسي والاجتماعي والشعبي التي تحققت في هذا القطر والتي كانت اولى ثمرات التفاعل الخلاق بين الشعب والقائد, انما تحمل من الطاقات الروحية وأصالة الاخلاق العربية, امكانات للإشعاع والتأثير تتجاوز حدود القطر العراقي الى المحيط العربي والانساني.” (البعث والعراق, ص62)
وحين شددنا بالقول كثافة رؤية مبدأ التنظير الخلاق في المستوى الديني اكثر من المستوى الفكري العام فلانه مبني على امتداده الزمني وحجم تأثيره السياسي العالمي, فلا يحتاج القارئ العزيز لمثال عن حركة الاخوان المسلمين او حزب الدعوة او الثورة الخمينية او الحركة الوهابية وغيرها لتوضيح مبدأ القدوة والمثل الاعلى فيهم كونه مدرك بشكل بديهي الاعتماد الاساسي في تنظيرها على هذا المفهوم, بل ان بلورة ذلك المفهوم في التوجه هي ما تبرر قوته واستمراريته على النطاق التاريخي والسياسي بدليل ان لا باع للاتجاهات الفكرية التي انفنا ذكرها اليوم سوى في سوريا متمثلاً بحزب البعث, ولا يشكل من مفهوم القدوة اي مؤثر حقيقي بل قد يصل مرحلة التهميش حين نتناول جوانب اعتماده على القوه الدولية الخارجية, ونحن بغنى عن التفاصيل كونها لا تلمس من البحث شيئاً. على الجانب الاخر نرى الامتداد الديني المسيس ما زال الى يومنا هذا على هذا المفهوم ويؤطره بأشكال متعددة, فمنها الطائفي مثل حسن البنا وسيد قطب ومحمد باقر الصدر, ومنها الديني الايديولوجي مثل ابن باز والسيستاني والخميني وابن تيمية ومحمد عبدالوهاب واحمد الطيب, وحتى على المستوى العسكري والميداني اذ تبرز اسماء قياديين كقدوة مجتمعية ابرزهم قاسم سليماني وابو مهدي المهندس ومحمد علي الحوثي وحتى حركات المقاومة الدينية بصرف النظر عن جوانبها الايجابية والسلبية.
من هنا تتضح كمية التعقيد في هذه المسألة وهل هناك امكانية مستقبلية, وان كان ضئيلة, للتخلص او التقليل حتى من حدة هذا المفهوم واتساع وجوده في الامة العربية ام لا, وتزايد التساؤلات عند القارئ نتج عن عدم ادراكه السابق لباطنية ما يراه من توجهات عالمية وشخوص هيكلية تحدد شكل العالم العربي حاضراً ومستقبلاً. لكن قبل ان نتجه لتقرير ان كانت هناك امكانية لمعالجة هذه المعضلة الشبه ازلية عند الشعب العربي ام لا, علينا ان ندرس وبتمعن النتائج الاجتماعية التي خلفها هذا المفهوم وايضاً تحت مقياس الجانب التاريخي, لكن هذه المرة ستكون النتائج ليست مختلفة في حقبها التاريخية بقدر ما ستكون تراكمية في تشكيلها وانعكاساتها.
ولان كثرة الانعكاسات الملموسة والميتافيزيقية في هذا المفهوم لا تتسع لذكرها جميعها في هذا البحث, سنتجه الى اهم عاملين نتجا من مفهوم القدوة واللذان سيراهم القارئ في نفسه وحياته بشكل عام, لان القارئ ان التمسهما بنفسه ادرك باقي العوامل والنتائج الفرعية في ذاته ومجتمعه على حد سواء. وهذان الانعكاسان يتمثلان بالادلجة الفكرية الدينامية للشخص القدوة بتقديسه وتنزيهه عن المزايا البشرية أولاُ, وبالرغبة الجمعية الصارمة على حتمية وجود قدوة او مثل اعلى سواء بإزاحة من سبقه او اعلاء نفسه بديلاً بعد انتهائه ثانياً.
ان ميزة التقديس والاستثنائية التي يضيفها المتبع او التابع لا تكفي لبقاء القدوة حي الذكر عند متبعيه في الحاضر والمستقبل, وهذا اهم ما ادركه البشر في مخيلته المجتمعية وحرص كل طرف على تخليد ذكرى هذا الكائن الاسمى, فالفراعنة والاغريق والبابليين وكل حضارات الكره الارضية لم تكن تفكر بعظمة حاكميهم بقدر ما فكرت بتخليد ذكرهم, ولم يكن مسعىً لحاكم او بطل او اي شخصية اتبعه نفر من الناس غير ان يضع علامات في حاضره تهيبه عند سكنة زمانه ومن سيتلوهم الى انتهاء العالم. ان خاصية الادلجة في هذا المفهوم لم تأخذ طابعاً فكرياً فقط باستخدام الابادة والمجازر والحروب وغيرها لبقاء ذكر القدوة الاعلى, بل اخذت ايضاً طابعاً تصورياً في جميع اشكاله وحقبه, لان القدوة يعلم ان الدم لن يدوم ذكره مهما كان غالياً بقدر التصور المرئي المادي الذي سيتركه, بل ان الطابع التصوري المادي الذي سيخلقه هو ما سيشفع له عند اصحاب غير زمانه فينسى من سيذكره سيئاته مستمتعاً بما ابدعه غيره لا هو, فهو لا يملك من اشارات زمانه سوى الفكرة تقريباً, ولا نعمم ذلك بشكل سلبي بحت كوننا نعمم هذا المفهوم ليشمل يومنا هذا, الا اننا نؤكد حدثه اذ لا يخلو قدوة مشهور اليوم من اشارة تعتليه وتنجيه من ذاكرة الزمان وزهايمر التاريخ. من المؤكد ان هذه الميزات التقديسية غالباً ما يتم اخذها على الطابع الديني حتى وان كان القدوة لا يؤمن بدين, وصفحات التاريخ تشهد على كثير من الزعماء والابطال من خلدوا ذكرهم بواسطة الانطباع الديني او اللاهوتي الذي يثيرونه في قلوب متبعيهم, اذ ان هذه الميزة لا تلزم صاحبها بالدين او اللاهوتية بقدر ما تلزمه بتقليدها وتشكيلها الظاهري امام الملأ, ونرى غوستاف لوبون في كتابه المشهور “سيكولوجية الجماهير” يشرح هذه الميزة باستفاضة ويختزلها بمثال شامل لكل الشعوب بمختلف مستوياتها:
“ان قناعات الجماهير تتسم بهذه الخصائص من الخضوع الاعمى, والتعصب العنيد, وحب الدعاية العنيفة الملازمة لكل عاطفة دينية. وبالتالي فيمكننا أن نقول بأن كل عقائدها تتلبس زياً دينياً. فالبطل الذي تصفق له الجماهير هو بالفعل اله بالنسبة لها. وقد مثل ذلك نابليون مدة خمسة عشر عاماً. ولم يحصل تأليه لشخص مثل ما حصل له. ولم يحصل ان أستطاع معبود ارسال الناس الى الموت بمثل هذه السهولة مثلما فعل هو. فإلهة الوثنية والمسيحية لم تستطع ان تمارس هيمنة مطلقة على النفوس أكثر مما فعل نابليون.” (سيكولوجية الجماهير, ص94)
اما عن ميزة الحتمية المجتمعية في وجود ممثل اعلى لها فهي ليست الا نتاجاً للميزة الاولى ومكملة لها, فنتيجة التراكمات التاريخية التي جعلت كل العصور لا تخلو من اعتلاء وسيطرة مفهوم القدوة خلقت بذلك كل الاوهام المجتمعية والجماهيرية التي يعيش بها الناس الى يومنا هذا, فحتى لو تخيلنا جدلاً ان مجتمعاً ما في هذا العصر قد خلق بداخله ارادة التغيير ونبذ قدوة ما يتسلط عليه, لن يرى في نبذ مفهوم القائد حلاً جذرياً وسريعاً ومريحاً بنفس الوقت, اذ سيتمثل حاكمه بنفس الفرد ولم يعد يميزه حتى منصبه, وهذا ما يجعل الاوهام التي يصنعها الشخصية التي تريد ان تكون قدوة لمجتمع ما او يأخذ مكان قائد قبله هي الحل الامثل والوحيد للطرفين, وهذا ما استنتجه لوبون ايضاً اذ قال:
“ويميل قادة الجماهير اليوم الى ان يحلو تدريجياً محل السلطات العامة كلما تركت هذه الأخيرة نفسها عرضة للمجادلة والاضعاف والنقض . . . واذا ما حصل ان مات القائد بحادث ما ولم يستبدل به فوراً فان الجمهور يتحول الى تجمع بشري فقد تماسكه ومقاومته . . . والشيء الذي يهيمن على روح الجماهير ليس الحاجة الى الحرية وانما الى العبودية. ذلك ان ظمأها للطاعة يجعلها تخضع غرائزياً لمن يعلن بأنه زعيمها.” (المصدر السابق, ص130)
رسمت شدة التعقيد طابعاً ينادي صعوبة, حد الاستحالة, وجود مفر او حل جذري لمثل هذا المفهوم الذي لم يطرأ بشكل رسمي او مستقل على احد من قبل, لكن الحقيقة الحتمية هي ان المشكلة ليست بالمفهوم بل بشكل تطبيقه, فمن المؤكد ان القارئ قد غفل القاعدة الفكرية الاساسية التي تقول ان المفاهيم لا تفنى بل تنحسر او تعيد تشكيلها او تستبدلها بمفاهيم اخرى, اي كون الانسان او المجتمع يمتلك قدوة ليست بحد ذاته المشكلة بل تعامله مع القدوة هو المشكلة, فمن منا لا يملك مثلاً اعلى مميزاً؟ والعصر الحديث هو اكبر دليل على ذلك اذ نرى القدوة قد يتمثل بالنسبة لأنسان على شكل عارضة ازياء او مطرب او مجموعة مغنيين او حتى صانعين محتوى بغض النظر عن قيمة المحتوى. ذلك ما يجعلنا مدركين حقيقة ان سوء استخدام المفهوم هو الاساس وليس المفهوم بذاته. يتبين بذلك وجود الحل الجذري لكن ليس لاقتلاع المفهوم بل لإعادة صياغته بالمجتمع, فسواء كان القدوة حاكماً او مغنياً فالمهم هو كيف نرى هذا القدوة وكيف نمنع عنه الجوانب الاستغلالية التي من الممكن ان يفرضها علينا كما شرحناها في صدر البحث.
ومع حل الحتمية الوجودية لهذا المفهوم توجب الكشف عن مفاتيح التجنب و حدود المفهوم الصحيحة لكي يخلص العرب من الوقوع في شراك اي شخص او جهة تريد ان تكون متبعة من الفرد او المجتمع بطريقة ايديولوجية. ولان العرب, كما اثبتنا, كائنات اتباعية, سنحدد هذه المعطيات بشكل يتناسب وطبيعة المجتمعات العربية لأنها الهدف الاول والاخير في هذا البحث. من اهم الركائز التي يعتمد عليها تشكيل وتقوية هذا المفهوم في عقل الفرد والمجتمع هو اختيار القدوة الصحيح والمناسب, فغالباً ما يقوم الفرد العربي باختيار قدوته الذي يناصف افكاره وينادي بها, ومن المؤكد ان التابع ينادي بحمله المبادئ الفكرية والاخلاقية التي يبحث عنها المتبع بدون ان يتفحصها او يتأكد من صحتها, فان تفحصها فسيبذل جهداً كان هو السبب الذي جعله يختار قدوة يفكر بدله او سيضطره ربما للبحث عن قدوة بديل ذو مواصفات اخرى. ذلك ما يبرر اتجاهات المجتمع العربي اذ الشيوعي اعتبر عبدالكريم قاسم قدوة الشيوعي وصدام حسين قدوة البعثي او الاستبدادي والخميني ومقتدى الصدر قدوة الشيعي, بل حتى الملحد العربي قد يعتبر ريتشارد ديكينز سفير الالحاد العالمي بالنسبة له, بما معنى ان التابع يشكل هيئة تتناسب وطبيعة من يتبعه ظاهرياً وغالباً يعتمد على اقرب شخصية له جغرافياً وابسطها معرفياً, فيشكل بذلك اصرة هشة وبعيدة عن العقلانية والوعي. مجمل القول هو ان المفتاح الاول لدى العربي هو ادراكه ان التابع يمثل الفكرة او الحركة او الاتجاه ولكن لا يجسده بالمقام الاول, وان الاصرة التي تجمع التابع والمتبع يجب ان تكون على اسس الفكرة التي تصنع المفهوم وليس التابع بذاته. ان نصف مشكلة القدوة هي ازالة هالة التجسيد والتنزيه المعطاة للتابع كي يكون من السهل ازالته او محاسبته في زلاته, لان القدوة مهما كان فهو بشر, وان القدوة مهما طبق تعاليم الفكرة فهو لا يجسدها بل يمثلها فقط, وبمجرد ان يتجاوز الفرد العربي تجسيد قدوته لفكرته ستزول معها نصف الاوهام التي من الممكن ان يزرعها التابع به, فهو سيكون متأكداً ان كل حركة ستعاكس المبدأ الفكري الخاص او الاخلاقي العام الذي صنع الاصرة بينه وبين من يتبعه ستتجه اصابع اللوم اليه وتمتد يد المحاسبة عليه.
باعتماد المفتاح الاول بصورة كاملة نستطيع ان نضمن عدم انجراف التابع لقدوته حتى لو كان مراهقاً يعتبر صدام حسين او القذافي او حافظ الاسد او فرقة BTS او كرستيانو رونالدو او حتى شخصية الانمي لوفي او اي كائن حي او خيالي قدوته بالحياة, فما صنع الاصرة التي تجمعه بقدوته هو ما سيركز عليها وليس الشخصية ذاته, وسيتذكر ان من يتبعه انسان قابل للخطأ او السهو او انه حتى شخصية كارتونية او كائن خيالي غير حقيقي. الا ان الجانب السياسي لن يكفيه هذا الحل لنضمن عدم انجراف التابع لمتبعه كون احتمالية ثعلبية وحنكة السياسي ستجعله قادراً على صنع صورة وهمية له تقنع الشارع على تطبيقه للمبادئ الفكرية والسياسية التي خلقت الاصرة بينهما, لذلك سيحتاج الفرد الى مفتاح اخر يقيه من تلاعب اي سياسي او حاكم عليه. ان هذا المفتاح يتمثل بأعلاء وتعزيز الوعي الديمقراطي الشعبي, اي ان يكون لدى المجتمع المعني وعي ديمقراطي شامل يقلل من نفوذ وقدرة الحاكم على المجتمع او اجهزة الدولة. بلا شك تظهر الديمقراطية على انها الشكل الامثل والحل الوحيد لانتهاء اسطورة القدوة في المجتمعات الحالية, ومما يؤكد ذلك هو الوعي المجتمعي الذي بدأنا نرى اثار زحفه المتمثلة بالمظاهرات المليونية والاعتراضات الجماهيرية الممتدة والتي تجذب انظار العالم لها بالرغم انها, بالغالب, يتم اجهاضها وانتهائها بسبب مفهوم القدوة, ففكرة المنقذ السياسي هي الحلم الابدي الموجود عند كل شعب قوياً كان او ضعيفاً, فها نحن نشهد اليوم رؤية ثلة من الامريكيين دونالد ترامب على انه البطل الذي سيحررها من المشاكل التي تمر بها الدولة الامريكية عالمياً, الا ان مراجعة بسيطة لما قدمه ترامب في الحقبة التي حكم بها تثبت بشكل مؤكد عدم استحقاقه ان يكون بطلاً قومياً لا رئيس دولة. هكذا نكتشف ان المجتمعات توكل مهمة بناء الدولة وحكمها على ما تشتهيه نفوسهم وما يغري اعينهم, فالوعي الديمقراطي لا يحل بقوم الا وقتل في داخله حس التبعية العمياء وازاح هالة القدسية والمثالية والمغالاة عن المتبعين والقدوة, لان المجتمع بدوره سيكون الناقد على تصرفات القائد بجانب ثقتهم المتزايدة بالمقدار الذي يستحقه. يكون الاستنتاج الشامل بمفتاحي الحل الذي اعطيناهما هو ان ازاحة هالة التقديس وفصل القدوة عن الفكرة والمبادئ التي خلقت الاصرة وكثافة الوعي المجتمعي هي الحل الامثل للقضاء على اوهام القدوة, فوهم القدوة لن ينفذ في الفرد او المجتمع العربي مالم يكن صاحب فكرة تقديسيه او دامج المتبوع بفكرته او لا يملك من الوعي الكافي لإعطاء قدوته حجمه الانساني الطبيعي لا الملائكي الخارق.
ولحسن الختام نلخص اوهام القدوة العربية بأحد الادلة الكامنة الملموسة في قضية صراع الزعامة العربية وبالعراق بالأخص, اذ نراه سنوياً حين تحل علينا ذكرى 14 تموز , فنرى انبثاق طرفين عراقيين يلزم كل طرف باعتقاده على الطرف الاخر, فمنهم من يرى الانقلاب بهذا التاريخ اللعنة التي اصابت العراق وجعلته يعاني الى هذه اللحظة, ومنهم من يرى الانقلاب حقق خلاص العراق من الحكومة الملكية التبعية والزمن الاقطاعي المجحف الذي كان يسيطر على العراق آنذاك. وذلك شأنه شأن المقارنة الدورية بين عهد النظام البائد والعهد الحالي وغيرها من المقارنات المبنية على اوهام القدوة. ان هذا الصراع قد يرى انه بسيط كون ان مدة حدوثة لا تتجاوز الايام التي يتم احياء الذكرى فيه, الا انه يبين الكمية المرعبة لأوهام القدوة المتجذرة في عقل العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص, وهذا ليس الا شاهد من مئات الشواهد الممتدة في الربوع العربية. لم ادعوا في مقالي هذا لنفي فكرة القدوة, فالإنسان الذي لا قدوة له لا منبع لمعطيات افكاره وملكاته, وقد يعني ذلك في الاغلب ان لا افكار ولا ملكات فكرية لديه, اذ اني صاحب الحرف هنا اعترف ان لدي شخصيات اعتبرها قدوة لي, لكن الذي تمحص كلامي وفهم مقصدي قد ادرك ان اوهام القدوة هي ليست نفي القدوة بل ازاحة الهالة التقديسية اللانقدية عليها, جاعلة من الفرد جامداً من ناحية –كونه بلا ابداع لإيمانه الكامل بأفكار من يقتديه –ومتطرفاً في من يخالفه من ناحية اخر. لذلك فان مفاتيح العرب اليوم للخلاص من اوهام القدوة هي بإزاحة التقديس من ابطال الماضي والحاضر سواء كانوا ابطالاً في اعينهم او لا, حقيقيين كانوا ام خياليين او حتى مؤثرين على مستوى فردي, وتكريس الوعي المجتمعي لبناء اواصر ديمقراطية جمعية لا تضفي هالة القيادة على شخصية او كيان سياسي معين فيبطش بالمجتمع من خلال الاوهام التي سيزرعها بهم ويجدد بذلك ما صنعه الذي تركه من اوهام القدوة في المجتمع العربي المتعطش للتبعية ولوجود القدوة بشكل حتمي كان او ضروري.