كتب: امجد حميد – العراق
يكاد تاريخ البشرية لا ينفك من وجود مجموعة من المجتمع , ادمية الدم بلا جدال , مضطهدة في كل حقبة مرت بها البشرية , و مهما بلغ استمرار الاضطهاد بهذه المجموعة بمختلف الاسباب فسنجد امل تحررها محتوم في موعد تاريخي و ان كان بعيداً . و بما ان المطلق محال التحقيق عند الأنس بفطرتهم , أُستُثنِيَ من هذه القاعدة شريحة لم تزل الى الان لا تستطيع الخلاص من هذا الاضطهاد بشكل جزئي مقبول حتى , و تعدد الأسباب لذلك هو بذاته كان و ما زال حجر العثرة لاختلاف الآراء فيها , ما عدا سبب واحد متفق عليه و هو ان ما اصطلحنا عليهم بمجموعة بشرية لا ينطبق جوهرياً عليهم , كونهم جزء من المجتمع و ليس شريحة منه , ذلك ما جعل تحقيق الحرية لهذا الجزء امراً في غاية التعقيد , و هذا الجزء المضطهد و الغني عن التعريف هو النساء .
و من يقلب صفحات التاريخ , قد ينتظر متلهفاً ما يهون عليه ثقل الاحساس بهذا الاضطهاد عند المفكرين و الفلاسفة , فيخيب امله حين يرى معظمهم و اعظمهم كانوا احد المساهمين بتبرير و تقنين – بل حتى تجديد – اساليب هذا الاضطهاد , فيبدأ حسرة جديدة تبدأ من افلاطون و قوله “الأنثى هي أنثى بسبب نقصِ في الصفات” حتى فرويد و قوله “إن النساء يرفضن قبول الحقيقة بأنهن مخصيات، ويعشن بأمل الحصول على عضو الذكر في يوم ما.”و هذا بحد ذاته ما يصعب امر تفهّم و تحليل هذا الجزء المجتمعي و ما حجم ذنبه الذي يفرض ان يكون متوارثاً لكل امرأة في هذا العالم ؟ فمن غير المنطقي ان يكون الامر كله تفاحة , اكلتها حواء و جنت على كل امرأة الى نهاية العالم ليقف ضدها المؤمن و الرافض بهذه الاسطورة على حد سواء.
لدينا الان الحجة البينة لتفصيل هذا الجنس , كفكرة و موضوع و ذات , و تبيين حتى شرعية و حقيقة كل ما قيل عنه و اسبابه لنصل الى حقيقته , فأي انسان جاهل بجوهر الانسانية و محروم من رفعة الوعي سيستنتج ان كل ما افرزته الرحلة البشرية من نقد و انتقاد لهذا الجنس هو كافِ لإثبات صحة ما جاء فيه , و الا من المحال ان يكون العالم و الجاهل مخطئان في الراي و في كل زمان و مكان! و من هذا المنطلق سنبدأ اولاً بالاستدلال بوجودية هذا الجنس اولاً ,وبتاريخه العام بكل المستويات ثانياً , و ما بورك سعينا ان لم يكن رحلة جديدة نغير بها نظرة السابقين و اللاحقين عن المرأة , و من يدري لعلنا سنصل الى نفس ما وصله كل شخص في التاريخ و نكتشف ان المرأة كانت و ما زالت تستحق كل هذا الاضطهاد و المحاربة و التقييد .
ان اول الحقائق و ابرزها التي هي من تقرر تتبع تاريخية هذا الجنس هو بشريته و انسانيته , لان انسنة هذا الجنس اخذت حيزاً تاريخياً ايضاً رغم عدم منطقية وجود مثل هذا التساؤل , فكيف يكون الذكر بشراً و من ينجبه ليس كائناً بشرياً ؟ و الكلام في ذلك كثير نظراً لدخول العلوم و الدين في خلق و تدعيم هذه المسألة غير المنطقية . هذا التشعب المفرغ لا يكفي او يهم كثيراً ليشغل حيزاً في هذا البحث سوى ان نستدل بدليل مجاور للدليل المنطقي لدحضه و هو الدليل اللغوي . و نستعين بقول جورج يول في كتابه “The study of Language” ” دراسة علم اللغة” حين يقول:
“لغوياً , يتمثل التقسيم الجندري الى نوعين على الاغلب : تقسيم على اساس بيولوجي يكون مبيناً على الجنس (ذكر و انثى) , و تقسيم على اساس نحوي يكون مبنياً على نوع الاسم (مذكر و مؤنث) و لا يكون مرتبطاً ابداً بالجنس.” (دراسة علم اللغة , ص 82 , ترجمتي)
تتوضح لدينا المسالة من خلال يول ان الثنائية التي يتم استخدامها في اللغة بالرغم انها شاملة , الا انها توحي بمبدأ عقلي لدى الانسان ان كل شيء يحمل في جوهره جنساً محدداً , فحتى الجمادات تدخل في اللغة في هذا التصنيف و تختلف من لغة الى اخرى فيه , فنجد الشمس مؤنثاً في العربية و مذكراً في الفرنسية , ذلك ما يبين جوهر الفكرة الجندرية لدى الانسان كفطرة متوارثة تبين ان الانسانية جزآن و ليس جزء واحد . نضيف الى ذلك ان يول لم يضف – اقلها في هذا الجزء من الكلام – تقسيماً اخر هو الاهم و المعضلة التي صنعت كل هذا الجدال كوجود هذا الجنس و هو التقسيم الاجتماعي , فالتقسيم الاجتماعي يجمع التصنيف البيولوجي و اللغوي في ان واحد , فهو يقوم بتقسيم المجتمع الى (رجل و امرأة) او (اب و ام) ما يدل بذاته ان هناك شريكاً اخر في العملية الانشائية المجتمعية بجانب الرجل او الذكر او الاب أيا كان المسمى , و هكذا ثبت لدينا على الاقل ان هناك كائناً حياً , بشرياً و ان كان مضطهداً , له حقوق و واجبات مهما سعت الاتجاهات الدينية و الفكرية و العلمية لسلبها و تقييدها و حرمانها , و بالرغم ان الجانب اللغوي رغم قوته , الا اننا سنعرج عليه لاحقاً في مسألة نتائج الاضطهاد.
يبرز الانتقال المفهوماتي للمرأة الى تاريخية التعامل مع المرأة بداية التعقيد لفهم و استيعاب ما جرى و ما نتج على اثره , فالسؤال الشائع الطرح دائماً و الذي يسبب احراجاً لمن ليس لديه الكمية المعرفية الكافية للإجابة: ما الذي لم تحصل عليه المرأة في التاريخ و حصل عليه الرجل؟ فمن منظور اخر , وجدنا في التاريخ بعض الحقب و الحضارات التاريخية من تألقت بحكم النساء , بل نجد بعض المنشئات البشرية الاولى مثل بابل قد سنت قوانين عدة تحفظ كرامة المرأة و تمجد دورها في المجتمع , فاين تكمن المسالة التاريخية في اضطهاد المرأة اذاً ؟
وردّاً على السؤال , يتحتم علينا تبيان ما نسعى لهذا الجندر من اجله , و ما هو الاضطهاد الذي نتحدث عنه بشكل اساسي و من اين بدأ و ما نوعه , اي تحديد المسار التاريخي لهذا الاضطهاد و ما شكل الاضطهاد الذي نتحدث عنه بالذات . و بناءً عليه سنكتشف ان الاضطهاد النسوي التاريخي بمجملة قد ظهر في جانبين محددين , الجانب الاول هو بداية النظام الابوي, و الجانب الاخر هو طرح و مناقشة و تناول هذا الاضطهاد من الناحية العلمية والفكرية .
تعتبر قصة النظام الابوي و كيف حدثت شائعة نسبياً و معروفة لدى الجميع , اقلها من يبحث و مهتم لهذا الموضوع , فسيجد ان مفاد القصة هو ان المرأة كانت تحتل كل الميادين المجتمعية البدائية و كان لها ثقل يتجاوز ثقل الرجل حتى على المستوى الديني , اذ ان الالهة النساء كانت كثيرة و معروفة و لم تكن مفاهيم الشرف و غيرها ملزمة على النساء بشكل اساسي حتى سقط حكم المرأة و حل محله الرجل بادئاً عصر النظام الابوي و المستمر الى يومنا هذا . مضافاً الى ذلك ان الاسباب الشائعة و المتعارفة لدى المطلعين و المهتمين تتمثل بالسبب البيولوجي المعروف باكتشاف دور الرجل الاساسي بعملية الانجاب بعد ان كان الاعتقاد بثانويته , و الاخر ديني بشتى فروعه الوثنية و الابراهيمية و كيف تم تحجيم وجود المرأة و دورها مجتمعياً سواء على صعيد نشأة الدين او امتداده التاريخي . و بالرغم من اهمية و صحة هذه الاسباب التي سنتناولها ايضاَ لاحقاً , الا ان الموضوع التاريخي لم يؤخذ نصيبه الذي يستحقه ان اكتفينا بهذه الصورة البسيطة الشاملة . و عليه يجب توسيع دائرة الطرح التاريخي لكي تكون الصورة مفهومة اكثر و واضحة بشكل يسمح للجميع ادراك حقيقة المرأة في الوقت نفسه .
ان الانقلاب التاريخي الذي حدث في مسالة الوجود النسوي , سواء على اسبقيته و ارتقاءه على الجنس الذكري او حتى احقية وجوده , يحمل وجهتي نظر تاريخيتين مهمتين , الاولى هي النظرية المادية التاريخية و الثانية هي النظرية الانطولوجية التاريخية , و اوجه التشابه بينهما هو اتفاقهم على اساس القصة السابقة و اسبابها , الا ان الاختلاف بينهما هو طريقة تفسير الواقعة التاريخية من زوايا مختلفة . من وجهة نظر المادية التاريخية , لا يتمثل الانقلاب الابوي بالحقائق التي تناولناها مسبقاً فقط بل هناك دافع و سبب اضافي كان مجهولاً و هو السبب الاقتصادي , فبجانب الاسباب السابقة التي تناولناها لن يكون لها اهمية ان لم يكن هناك دافع اقتصادي حقيقي قد دفع البشرية ليرفع من شأن الرجل في اغلب الحضارات القديمة و التي استمرت الى الان. لقد كان اول المنادين و المؤسسين لهذه النظرية هو انجلز خصوصاَ في كتابه (اصل نظام الاسرة و الدولة و الملكية الفردية) اذ بين فيه ان الدليل على ان الجانب الاقتصادي هو من خلق النظام الابوي القائم الى الان , و الذي يتمثل في طبيعة القبائل البدائية التي نراها موجودة وطبيعة حياتهم . و في الاثر الاول نرى انجلز يقول فيه:
“ ولما كانت العائلة المكونة من فردين ضعيفة وغير ثابتة لا تستطيع أن تقيم عشيرة مستقلة فإنها لم تستطع أن تكون سببًا في حل العشيرة الجماعية التي سبقتها في الوجود. ولكن العشيرة الجماعية كانت تعني سيادة النساء في المنزل نتيجة الانتساب للأم؛ وكان ذلك يعني مركزًا ممتازًا للنساء؛ فقد كانت النساء تشغل مركزًا محترمًا وحرٍّا لدى كل الشعوب في عصر الوحشية والمرحلتين الدنيا والوسطى من البربرية وجزء من المرحلة العليا. ويقول آرثر رايت، الذي كان يعمل مبشِّرًا دينيٍّا لمدة سنين طويلة بين قبائل الإيروكيوس، أن وضع المرأة ظل محترمًا عندهم حتى في ظل العائلة المكونة من اثنين. وكانت نساء القبيلة المسيطرة تستولي على أزواج لها من القبائل المجاورة. وكانت النساء هي التي تحكم المنزل، ولم يكن للزوج أو الحبيب أي دور في الأمر والنهي، وقد كان ممكنًا أن تأمره المرأة في أي وقت بأن يحمل بطانية ويرحل؛ فكان يمتثل للأمر في ذلة بصرف النظر عن عدد الأولاد الذين له بالمنزل أو الأمتعة التي عنده، وكان الرجل في هذه الحالة يعود إلى قبيلته أو يتزوج من أخرى كما كان يحدث غالبًا.“(اصل نظام الاسرة و الدولة و الملكية الفردية ,ص31)
من هذه النقطة نستطيع ان نكمل اللوحة التاريخية المرتبطة بالوجود الذكوري الابوي حين نثبت ان فكرة حكم المرأة كانت ستبقى الى عهدنا هذا لو كانت ستلائم وطبيعة النهوض الحضاري , مما يجعلنا نعترف بشكل مؤسف ان النتاج الحضاري , اقلهُ في بدايته , كان ذكورياً بحتاً , و ان النزعة القبلية البدائية كانت تحت حكم النساء كما تثبته قبائل الايروكيوس او حتى قبائل الأكا في جنوب افريقيا . و يؤكد انجلز ذلك في كتابه قائلاُ:
“وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أن تقارير الرحَّالة والمبشِّرين عن النساء عند القبائل التي تعيش في المرحلة الوحشية والبربرية مليئة بمعلومات لا تتعارض مطلقًا مع ما سبق ذكره، وأن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة حددته أسباب مختلفة تمامًا عن الأسباب التي تحدد وضع النساء في المجتمع. وأن الشعوب التي تؤدي نساؤها أعمالًا أشق مما نتصور تُكن للمرأة احترامًا أعمق مما يُكنه الأوربيون لنسائهم. وأن الحالة الاجتماعية للمرأة في عهد المدينة، وهي المرأة المحاطة بالاحترام الزائف والمبعدة عن كل عمل حقيقي، لَأحطُّ كثيرًا من حالة المرأة التي كانت تؤدي أشق الأعمال في مرحلتي الوحشية والبربرية، والتي كان قومها ينظرون إليها على أنها سيدة حقيقية بحكم طبيعة وضعها.” (المصدر السابق ,ص32)
ان الطفرة الاقتصادية التي حدثت تبين بشكل جلي ماهية النظام الابوي و كيف استطاع الرجل انهاء عصر المرأة و حل محلها في كل شيء , فانتقال الانسان من الصيد الى الزراعة و من الزراعة بعدها الى الصناعة هي السبب الاساسي و ليس العامل البيولوجي كما يزعم انجلز:
“ ولذلك فعندما ازدادت الثروة الحيوانية الجديدة المملوكة للرجل فقد أعطت الرجل وضعًا أكثر أهمية في العائلة من المرأة. ومن ناحية أخرى أصبح الرجل يميل إلى توجيه النظام التقليدي للوراثة لمصلحة أولاده، ولكن ذلك كان مستحيلًا طالما ظل الانتساب للأم مطبَّقًا فكان على ذلك النظام أن يتغير حتى يستطيع الأب توريث أولاده، وقد تغيَّر هذا النظام فعلًا، ولم يكن من الصعوبة تغييره كما نتصور الآن لأن الرجل كان هو الأقوى في العائلة؛ وبذلك أصبح الانتساب للأب هو السائد. ” (المصدر السابق , ص36)
بهذه الطريقة نجحت وجهة نظر المادية التاريخية بتوضيح اسباب الانتقال الحديثة من حكم المرأة الى الحكم الابوي , الا ان السؤال الذي نشأ اثر هذه الاسباب هو : هل نختزل تاريخية الصراع النسوي لإخذ حيز وجودي في العالم بالدافع الاقتصادي فقط ؟ بالتأكيد لا , لان وجهة نظر المادية التاريخية لم تبين طبيعة هذا الانتقال بل بينت اسبابه واوسعت في توضيحها , بل وحجمت الانتقال بجعله في جانب واحد وهو الجانب الاقتصادي , و هذا ما فعله جانب علم النفس على يد فرويد باعتبار ان المرأة لديها (عقدة نقص) كونها ليست ذكراً , اذ لم تمثل محاولات شرح انجلز و استدلالاته الا تقدماً خطوة واحدة في تفسير جانب من اصل الاضطهاد. ترد سيمون دي بوفوار على انجلز في كتابها “الجنس الاخر” قائلةً:
“من الواضح, مثلا ان فكرة التملك الفردي لا تكتسب معنى الا اعتباراً من الوضع الاصلي للكائن . وكيما تظهر , يجب اولاً ان يكون في الشخص ميل الى فرض نفسه في فرديته الجذرية , ونزعة الى تأكيد وجوده المستقل المنفصل . ومن المفهوم ان هذا الادعاء يبقى شخصياً , داخليا , غير حقيقي , ما دام المرء محروما من الوسائل العملية الكفيلة بتلبية هذا الادعاء تلبية موضوعية.” (الجنس الاخر , ص27 )
تنقلنا بوفوار من منطلق حديثها هذا الى الجانب الاخر و هو الجانب الانطولوجي للمرأة كسبب مؤكد و حقيقي لاضطهاد المرأة , فهي لا ترى اسباب انجلز واقعية بالكامل و لا ترى المنظور الاقتصادي كافِ لتحديد المشكلة . ان السبب وراء ذلك هو كثرة المشاهد التاريخية التي تبين اشراك المرأة في الميادين الحربية من جانب , وكيفية تأقلم جسدها و وضعها البيولوجي و الوجودي من جانب اخر:
“ومهما كان من امر قوة المرأة آنذاك فان واجبات التناسل كان تشكل بالنسبة اليها عائقاً كبيراً . و يحكى ان النساء المحاربات كن يقطعن اثدائهن ليتخلصن من الامومة . وكن بحاجة الى حماية المحاربين في سبيل اتقاء شر العدو وضمان معيشتهن ومعيشة اولادهن .” (المصدر السابق , ص32)
اذاً فان مسألة الانقلاب التاريخي على المرأة قد تم حلها من خلال المسألة البيولوجية التي كانت تنقصها بعض التفاصيل و المعلومات التي لم تكن متوفرة في ذلك الحين . لأننا ان سلمنا باكتشاف اهمية الحيوان المنوي في الانجاب كسبب للانقلاب , سنجد ان هذه الحقيقة لا تأتي بشيء في عملية التوسع الحضاري و الجغرافي الذي حققه البشر , و ان سلمنا بالأسباب الاقتصادية وحدها نتج عنها تقييد دور المرأة على الفكر الاقتصادي وحده , فنحن نعترف ان بعد العصر الصناعي عادت المرأة تؤثر في عملية الانتاج و من بعدها العصر التكنولوجي , الا ان هذا الانتقال لا يكفي لان يكون الاقتصاد هو سببه لان الشواهد التاريخية مليئة بمشاركة النساء في الميادين المختلفة بعيداً عن البعد الاقتصادي الذي ينادون به الاشتراكيين . وحده البعد الانطولوجي هو ما يجمع كل ما سبق ليمثل نموذجاً موحداً نستدل به لما وقع على المرأة تاريخياً , لان كينونة المرأة و ابعاد جسمها البيولوجية فرضت عليها ان تكون غير مشاركة في بداية الحياة الاقتصادية و الحضارية , و التي ساعدت على تسليط الاضواء على الرجل بالرغم من وجوديتها المحتومة :
“لقد سمحت لنا النظرة الوجودية ان نفهم كيف ادى الوضع البيولوجي والاقتصادي للجماعات البدائية الى تسلط الرجل . فالمرأة اكثر خضوعاً من الرجل لمستلزمات النوع . وقد حاولت الانسانية دائماً التحرر من مصيرها النوعي ولما اخترعت الاداة اصبحت ادامة الحياة بالنسبة الى الرجل نشاطاً وهدفاً على حين كانت المرأة تبقى في مرحلة الامومة و الحمل مقيدة بجسمها مثل الحيوان . ولما كانت الانسانية تفضل على الحياة بالذات ان يكون لها اسباب للحياة فان الرجل نصب من نفسه سيدا امام المرأة.” (المصدر السابق , ص35)
لن يكفي تحليل الانقلاب التاريخي على المرأة لإجابة السؤال المطروح بأصل نظرية الاضطهاد , فبالرغم من انتقال السلطة البشرية لان تكون سلطة ذكورية الا ان ذلك لا يفسر او يبين الاضطهاد الذي نسعى للتكلم عنه و انهائه , بل على العكس فهو يميل الى تبريره نوعاً ما. و بالرغم ان الجزء الاقتصادي قد لمّح لشيء من هذا الاضطهاد الا ان تبريراته كافية لان تحوله الى مصير حتمي وليس اضطهاد مفتعل من المجتمع الذكوري , لأننا اعترفنا مجملاً بان طبيعة المرأة حتى وان تم استغلالها اقتصادياً في العهد الصناعي و اشركها ثانية في التكوين الاقتصادي الا ان طبيعتها الفيزيولوجية تبقى العذر الاسمى لان تكون غير مناصفة للرجال في هذا المجال . لذا يتوجب علينا الانتقال الى النظريات العلمية و ما كتبه المفكرون و الفلاسفة عن هذا الجندر لنكتشف اكثر طبيعة هذا الاضطهاد و ماهيته .
ان من اكثر الامور غرابةً في هذا الموضوع هو طريقة تناول المفكرين و الفلاسفة المرأة دوماً , خصوصاً الذين نراهم رسموا خطوط تفكير هذا العالم و طريقة عمرانه التي نراها اليوم , و يزيد اللغز تعقيداً هو عدم ظهور اسباب واضحة تعين اسباب هذا الانتقاد و الموقف السلبي تجاه هذا الجندر سواء على الصعيد العلمي او الادبي , مما يجبرنا التمعن ملياً في هذا الجانب لأنه وبلا شك سيبين ما نوع الاضطهاد الذي نتكلم عنه . ان النظرة الدونية , المليئة بالاستحقار , و المعلنة من قبل اصحاب الافكار و العلوم بشتى انواعها , لا يمكن ان تختزل و تتناول على المستوى اللفظي او النظري فقط , بل يجب ان تتوسع و تشمل جميع الافاق الفكرية و البيولوجية و التاريخية , بل حتى السيرة الذاتية لصاحب الفكرة و الراي و النظرية السلبية للمرأة و/او الجندر النسوي بأشكاله الموضوعية كلها. و من الصعب ان يتوصل اي انسان الى استدلال ماورائي مقبول بعد الاستقصاء المفصل لكل من نظرّوا في الجندر النسوي و يلتزم الحياد فيه , فالمفارقة المكتشفة بعد طول البحث ان الحياد لم يكن موجوداً في نظرياتهم بتاتاً . رغم ذلك فأن الهاماً سيولد من خلال ما تنظرّوا فيه , حتى و ان كان بسيطاً , معنياً بالأسباب التي ساعدت على تكوين هذه النظرة الجندرية السلبية ,و الذي من خلاله سنبدأ باكتشاف الاضطهاد الحقيقي الذي نسعى لأنهائه . من بعد ذلك سنكتشف , حين نتناول شريحة من كل الجوانب التي ادلت نظرتها عن الجندر النسوي , ان اهم الاسباب و اعقدها التي شكلت الاضطهاد هي نتائج و معطيات الانقلاب التاريخي بذاتها على النحو العام , و الحياة التي يمر بها صاحب النظرة الجندرية على النحو الخاص .
ان الانقلاب التاريخي , بصورته الاوسع التي توصلنا لها , يمثل بذاته اطراً تأثيريا و تكوينياً لنظريات و اكتشافات المفكرين و العقول التاريخية العظيمة في كل المجالات العلمية والدينية . من هنا يتمحور الخطاب و عامل الاضطهاد الذي ينعكس بصورة رؤية و تعامل جمعي مع الجندر النسوي , و كثرة المشاهد الحاملة لتعابير الاستصغار و الاستحقار و نبذ فكرة انسانية هذا الجندر تجعل من مهمة تناول جميع الجوانب التي تم التنظير عنها , خصوصاً التشعبات الفرعية منها , امراً محال . يكفينا ان نتناول شهادات لفظية من شخصيات اتفق عليها الجميع بانها كانت كارهة للنساء لنفس الاسباب المذكورة , فوجدنا فرويد يكمًل افلاطون في وصفه ان عقدة النقص هي الهوية الوجودية و السيكولوجية لدى المرأة , و تشغل دراسته في مدرسة التحليل النفسي و نظرية الانا والهو باعاً واسعاً في توطيد هذه الافكار عنها , خصوصاً حين يجعل السلطة الذكرية هي الاولوية و ان المرأة , كما تصفها بوفوار , هي جنس اخر مكمل للعملية الانجابية و للجنسانية .
ان الاثر التاريخي الذي صنعه الذكر وفق العملية التناسلية التي تجعل المرأة كفكرة خاضعة في الجماع كونها تكون تحت الرجل , ما يفسر في ذلك اذلالاً لها وخضوعاً , هو الانعكاس الاولي للأفكار النفسية الفرويدية , لان هذه الواقعة قد انتقلت في واقعيتها من منزلة الحدث الى منزلة البديهية و المعطى الثابت, مما ساهم بشكل مباشر لاواعي لتصديق و فهم العملية الجنسية بهذا التصوير اللامنطقي , فجعلت المرأة في نظره كائن مخصي و ادنى من الرجل و غيرها من التعابير التي استخدمها و طورها بعده من تلاميذ هذه المدرسة . نتج عن هذا مجملاً نظرية واضحة موحدةً هذا الاتجاه العالمي و افكاره كلها نسبياً و هو ما يصطلح عليها بمركزية القضيب Phallocentrism , و التي سنتناول موضوعها بتفصيل اكثر لاحقاً .
لقد سبقت الفلسفة , تاريخياً و موضوعياً , كل العلوم في محاربة و انتقاد الجندر النسوي , و نفس الاسباب تفسر هذا التوجه السلبي تجاه هذا الجندر . لكن علينا اولاً ان نرى ما تم قوله و انتاجه قبل تقييمه , لان اغلب النتاجات تكون جذابة و عظيمة لكل من يقرأها الا ان بعض ما تخفيه يكون مروعاُ , خصوصاً من ناحية الجندر النسوي و المرأة . ان الامر ليبدو مريباً حين نجد حتى اصحاب المدارس الفلسفية السوداوية , نخص في ذكرنا و بحثنا الان المدرسة التشاؤمية , حين يبالغون في تسقيط امر الانسان باختلاف جنسه , يزيدونه اضعافاً على النساء و كأنها هي السبب الاول و الوحيد لهذا الشقاء , و لا كلام يسطع نوره اكثر من كلام شوبنهاور , مؤسس المدرسة التشاؤمية بعينه , الدائم و السلبي نحو هذا الجندر , فنجده بالمبالغة العامة يقول في كتابه (ميتافيزيقا الحب) محللاً طبيعة الذكر الشهوانية و يقول:
“ان حب الرجل سرعان ما يخمد ويستحيل رماداً بمجرد ما ينطفئ ضرام شهوته, وينجذب الى كل النساء أو يكاد ما عدا تلك التي في ملك يمينه , أنه دائماً ما يمني النفس بالتغيير ويتوق الى الجديد . فيما حب المرأة, في المقابل , يكبر شيئاُ فشيئاً بدءاً من لحظة وقوعها في حبائل الحب , وهذه النتيجة تأتي على وفق الغاية التي ارادتها الطبيعة , اي الحفاظ على النوع وتكثير سواده.” (ميتافيزيقا الحب, ص50)
و على الرغم من تحليله و نظرته الفلسفية الشاملة , الا انه يعود بمفارقة عجيبة ليفسر هذا الالتزام الجندري كخضوع كما جرت الحالة عليه عند الجميع:
“اننا بقولنا ان المرأة مهيأة بالفطرة , وتسلم القياد وتنصاع طائعة, فلدليلنا الدامغ على ذلك أن كل أمرأه وجدت نفسها في وضعية استقلال تام, وهو ما يتنافى مع طبيعتها بداهة, تهرع على الفور حاثة الخطى الى الالتصاق باي رجل محتمل , فتسلمه قياد أمرها ليسوسها ويحكمها, لآنها ببساطة شديدة في حاجة ابدية الى سيد.” (ميتافيزيقا الحب, ص131)
ونزيد عليه المد النيتشوي الذي لطالما كان نبراساً في نبذ و احتقار الجندر النسوي في مجمل كتاباته ونظرياته , اذ اننا لن نبالغ ان اعتبرنا نيتشه هو اكثر فيلسوف قد كره المرأة على مر التاريخ و حجّمها لتكون في ارذل التصورات التي خالجت عقله . و بالالتفات الى كتابه (ما وراء الخير والشر) سنجد كثرة العبارات التسقيطية التي ارتمت ان تكون عصارة فكره وقلبه ومشاعره تجاه كل شيء وليس فقط النساء , فنجده يقول في محطات متعددة:
“139: في الانتقام وفي الحب تكون المرأة اكثر وحشية من الرجل.
144:عندما تكون لامرأة ميول علمية, فان شيئاً في حياتها الجنسية يكون غير طبيعي . العقم وحده هو الذي يهيؤها لضرب كم ذكورية في الذوق , فالرجل , بعد اذنكم , هو ((الحيوان العقيم)).
145: اذا ما قارنا بين المرأة و الرجل اجمالاً , سيكون بوسعنا ان نقول: ما كان للمرأة ان تنعم بعبقرية الزينة , لو لم تكن لديها غريزة الدور الثاني.
147: من قصة فلورنسية قديمة, وهي واقعة معاشة علاوة على ذلك: المرأة الصالحة و المرأة الطالحة بحاجة الى الضرب.” (ما وراء الخير والشر , صفحات متعددة , يرجى اتباع رقم العبارة)
تشكل حدة الكلام النيتشوي غرابة لدى القارئ بلا شك , خصوصاً وان الاسلوب المستخدم لا يملك مناحِ تأويليه لوجود استثناءات او انه موجه لأغلبية ساحقة على الاقل . الا ان السببين اللذان اشرنا اليهما تحيل الموضوع الى غرابة اكثر , اذ هل يمكن ان يكون الانقلاب التاريخي و السيرة الذاتية للكاتب تبريراً كافياً لذلك . الحقيقة هي ان الانسان لا يستطيع ان يفر من واقعه , والغالب ان واقعه هو من يرتسم فكره و ان كان يدعي انه يخالفه , لذلك حين طلبنا فحص حياة كل كاتب اشرنا له و علاقته مع الجندر النسوي , ما كان لنا هدف سوى كشف الانعكاسات التي بنت افكارهم و نظرياتهم , فهذه الجزئية سنستخدمها لاحقاً كأثر معاكس في مسألة الحراك النسوي . فلا احد يعرف شوبنهاور و لا يعرف مأساته مع أمه التي كانت اول اعدائه في حياته بسعيها لقتله و تحدته بان يكون يوماَ كاتباً له وزنه في التاريخ . اما نيتشه فلا احد يختلف في عاطفيته و حسه الرومانسي , خصوصاً من اطلع على كتاب “هكذا تكلم زرادشت” , الا ان ذلك يعكس ايضاً الحالة العاطفية التي مر بها اذ كتبه بعد انحدار علاقته المأساوية بعشيقته لو سالومي , و التي اصبحت بعدها كتاباً على يد المؤرخ ارفين د.يالوم بعنوان (عندما بكى نيتشه) , اذ اوصله الحب بقبول العيش معها ومع صديقه بول ري في شقة واحدة , بما اسماه حينها (الثالوث الغير مقدس) , مبتعدين ثلاثتهم عن اي ممارسات جسدية , وهذه مقاربة عجيبة حين نتمعن بعبارة رقم 144 التي يزعم فيها ان لا مجال للمرأة ان ترتقي للمجال العلمي الا وخسرت الجانب العاطفي و الجنسي لديها . هكذا يتبين السبب الثاني الخاص بالسيرة الذاتية لصاحب الرأي السلبي من خلال المثالين اللذين استخدمناهم كسبب مكمل لسبب نتائج و اثر الانقلاب التاريخي , و تنتهي بذلك معضلة الرأي الحاد و الجارح بصورة مبسطة .
ان مجمل ما قيل و ما حدث لم يكن هيناً في تراكمه , بل أنشأ فعلاً , وحري به ان ينشئ , ما نراه اليوم تحت مسمى الحركة النسوية . ان التعقيدات و المؤاخذات على هذه الحركة طويلة و متشعبة لن يفيد الاطلاع عليها كلها حتى و ان اختزلناه , الا اننا يكفينا ان نعرف بان لا يوجد تاريخ رسمي قد وجدت فيه هذه الحركة , و اشكال الاضطهاد التي مررنا بها تغنينا عن مناقشة الاسباب . ان الحركة النسوية كمفهوم او كنشاط يختلف حسب المؤرخين ايضاً , فالمصطلح يعود لسنة 1837 على يد الاقتصادي الفرنسي شارل فوبييه , فقد شمل المرأة , شأنها شأن جميع الفئات الاجتماعية المضطهدة , في مسألة التطور الاقتصادي و التعديلات المجتمعية الواجبة كشكل جديد من اشكال الاشتراكية . اما كحركة عينية او كتابية فالمشاركين فيها كثر و اغلبهم نساء , مثل ماري وولستونكرافت و التي شهدت خلال كتابها سنة 1792 بعنوان (دفاعاً عن حقوق المرأة) بداية الشعلة للنهضة النسوية في العالم . نتيجة لذلك بإمكاننا القول ان الحركة النسوية لا تمتد لأبعد من القرن الثامن عشر , و ان الحركة لا تناقش ما مرت به المرأة من اضطهاد تاريخي فقط , بل تشمل ايضاً احداثها المتجددة و مستقبل المرأة في هذا العالم , و ان الحركة بالتأكيد تشبعت بانعكاسات ايجابية و سلبية كنتيجة رد فعل للاضطهاد العام , ولان الجانب الايجابي مثبت و لا يعنينا ما حدث فيه , لذا سنهتم بالجانب السلبي الذي انعكس في الاضطهاد . و باستنتاج بديهي , سندرك بصورة مباشرة المناحِ التأسيسية التي نتجت في صلب هذه الحركة ,و التي شملت التصور الجندري الناتج من جميع المستويات و الافاق , و الانعكاس الحاصل على اثره في المجتمع و الفرد باختلاف جنسه.
ما نقصد بالتصور الجندري كنتاج المستويات و الممارسات السبقية هو تحويل المعطيات الافتراضية الى حقائق مع تغيير اشكالها و القالب الموضوع لديها , فالمسألة ليست بتلك البساطة لكي نرتمي لما حدث لدافنشي و ليزا كنتائج عصرهما في تحريم الفن على المرأة , فوجدت بعدها ليزا كفنانة حقيقية بهيئة رجل , فقد استمر الفن بابراز فنانات نساء بعدها , و لا نحمًل شارلوت برونتي احمال التحرر النسوي حين وصل بها الحال ان تنشر رواياتها باسم رجل حتى اللحظة التي عرف العالم ان الكاتب امرأة . ان التأثير الجندري لن يكفي انهاءه مجموعة شخصيات بادرت لكسر هذه القيود , بل ان هذه الشخصيات ستكون اداة و حجة تدعم الحراك و توطده لكي يمارس نجاحاته المتتالية فيه . لذا سننبه القارئ باننا سندخل الى تفاصيل معقدة بشكل كبير في ما نقصده بالتصور الجندري الجديد , بل ان هذا التعقيد سيكون مختزلاً ايضاً كون ان تفاصيل المد النسوي اصبحت في العقود الاخيرة اكبر من مناقشتها في مبحث واحد , لأننا لا نريد اثبات نجاحات نسوية فقط بل الجانب التطرفي الذي نتج بسبب الاضطهادات , و ستكون الجوانب الاساسية التي سنتناولها بالترتيب هي : الهوية , البيولوجيا و نتائجها , و اللغة كمفهوم جدلي حديث.
ان سبب تحديدنا لهذه المواضيع هو اننا خضنا الحديث عنها في هذا المقال , كذلك الجوهر الشمولي التي تحملها هذه المواضيع و الذي سيغنينا عن الالتفات للجوانب الفرعية الاخرى . فموضوع الهوية الذي اخذ منحاً جدلياً في العصور القديمة قد انهار كثيراً بعد هذه الحركة و ان كان بشكل تدريجي ممل , فحتى اكبر الدول المنادية بالتطور و التقدمية لم نرى حقوق النساء في المجالات العامة الا في العقود الاخيرة , و الدليل الاشهر هو حق النساء في التصويت الذي اتى بعد مطالبات جماهيرية حققت مطلبها في سنة 1912 . ان مفهوم الهوية القديم قد انتج ردود افعال ايجابية و سلبية في فترات تاريخية متسلسلة , فقد طبع في اذهان اصحاب الحراك ضرورة حقيقية لنقاشه على الرغم من اختلاف افكارهم عنه , و تعطينا بوفوار الماهية العامة بكتابها (الجنس الاخر) الخاصة بالمرأة و تبين من خلال عنوانها ان الماهية النسوية كانت , و لحد الان تقريباً , لا تتجاوز حدود ان تكون جندراً ثانوياً و جنساً اخر في نهاية كل مطاف . كل هذا ساعد في تطوير و فهم ماهية المرأة و اعادة احياء وجودها في الحاضر , الا انه بنفس الوقت احدث ثغرة وجودية و ماهية لأصل الهوية , اذ لم تكفي المطالبات لأجل المساواة بالحقوق و الواجبات دام ان شبح الجسد و منظوراته العلمية المتفق عليها في عصور النسويات يشكل عائقاُ تبريرياُ لمنع تحقيق التكامل الذي يتأمله جميع انصار الحركة النسوية , ذلك ما يفسر بشكل جلي تعليق بوفوار بان المرأة لا تولد امرأة بل هي من تشكل صيرورتها كامرأة “لا تولد الواحدة امراة , بل هي تصير كذلك.” و قد جرت هذه النظرية الانتزاعية لهذا الجندر بشكل واسع بين اوساط النسويين , و نجد جوديث بتلر في كتابها (قلق الجندر) موضحة امر فجوة الهوية النسوية:
“سوف يكون من الخطأ أن نفترض بشكل مسبق أن هناك شيئاُ مثل مقولة “النساء” يحتاج ففقط الى ان يتم ملؤه بمكونات مختلفة من قبيل العرق و الطبقة و العمر والانتماء العرقي والجنسانية من أجل أن يكون كاملاً . وان افتراض عدم اكتمال ماهيته يسمح لتلك المقولة بان تستخدم بوصفها موقعاً متاحاً دوماً للمعاني المتنازع عليها. وان عدم اكتمال تعريف المقولة قد يمكن بذلك ان يستخدم باعتباره مثلاً اعلى معيارياً معفى من قوة الاكراه.” (قلق الجندر , ص 91).
بتلك البساطة تتبين ان مسألة الهوية في الجندر النسوي قد انحسرت في مفاهيم ضيقة , مادية في الاغلب , جعلت الخلاص منها في انكارها او تهميشها , ولا حل اخر غيره لان الاعتراف بها يعني الخضوع لمستوى المقياس الذكوري لا محالة . ان الجسد كمفهوم عام ضل مفروضاً بمجمل تفاصيله , كالضعف و البكارة والعذرية و غيرها , على كل الاطراف المتنازعة عليه , ففكرة تحرير الجسد , وان كان مفهوماً ميتافيزيقاً , لم يأخذ طابعاً حقيقياً لأجل تحقيقه بشكل يتناسب وطبيعة المعطيات المعرفية التي يملكها البشر , مما اجبر رواد الحراك النسوي بأنكار الهوية الجوهرية في كثير من المناسبات جاعلين الفكرة التحررية خارج موضوع الجسد , و احد المشاهد المثيرة للسخرية و الاستغراب هو ما حدث مع مونيك فيتيغ , الفيلسوفة والمنظرة النسوية , في احدى محاضراتها في كلية فاسار الامريكية حين سألوها ان كانت تملك فرجاً , فأجابت بصورة مباشرة و بلا تردد بالنفي . ان هذا الانكار الحاد و السلبي ليس وليد استهتار او صدفة استنتاجية بل هو صفة تراكمية جاءت بسبب الانكار الذكوري التاريخي المستمر و الربط الفظيع بين القاعدة الجسدية و الهوية النسوية , لدرجة نفاذ هذه المعطيات التي تحولت الى بديهيات الى الحراك النسوي , مما اجبرهم على التعليق في امر الجسد كمسألة حتمية . و دليلنا على ذلك هو تكرار نفس التصور عند فئة تاريخية مضطهدة و هم السود الذين تعلقوا في مسألة الجسد ايضاً كمعضلة تاريخية و بيولوجية وصلت لمناقشة التطور البيولوجي و الحضاري المتأخر في اجسادهم:
“ان المثال المعياري للجسد بوصفة في الوقت نفسه موقفاً واداة هو امر قد اتى عليه كل من بوفوار في صلة الجندر و فرانس فانون في صلة بالعرق . و قد اختتم فانون تحليله للاستعمار باللجوء الى الجسد بوصفه أداة الحرية , حيث ان الحرية هي , بالشكل الديكارتي , متساوية مع الوعي القادر على الشك.“(المصدر السابق , ص850)
هكذا تتوضح معضلة الهوية , انها كانت و ما زالت مرتبطة بالجسد بكل مناحيه , و ان الحتمية التاريخية التي فرضتها المجتمعات و المفكرين جعلت من انكارها امراً مرفوضاً او مطلوباً , حسب الطرف و نفعيته و احتياجه لتبرير المفاهيم , وان ذلك قد فسر بشكل جلي انكار فيتيغ مادية وجود شيء في جسدها لأنها تعلم تبعيات ربط كل شيء فيه . تنقلنا معضلة الهوية , مع توضيح نتاجاتها الايجابية و السلبية وتأجيل حلها الى السبب و الداعي الاساسي الذي تتغذى عليه و هو الموضوع البيولوجي , بجوانبه العقلية والفيزيولوجية و النفسية , اذ ان الانجازات التاريخية التي كسرت مفاهيم المحدودية البيولوجية لم تكن كافية لمنع اوغست كونت ان يقول “لا يمكن للمرأة ان تصبح من زمرة المؤلفين شأنها في ذلك شأن العمال البروليتاريين.” لكن المبدأ الذكوري الذي انشأه بهذه العبارة , و هو مبدأ تسلسل الجنسين , قد هدمه بيده بعد ان احب امرأة في حياته , و كل هذا لا يكفي لإثبات ان الذكر ايضاً محكوم بعاطفته بعد عن عجزت المدلولات التاريخية لاثبات ذلك , و حلت محلها العاطفة الجياشة من امرأة أحبها احد المؤسسين لعلم الاجتماع مثل اوغست كونت ؟!
للوهلة الاولى , تعكس الجوانب البيولوجية لجسد المرأة مواضيع متعددة تبان في اهميتها احياناً لتكون سبباً جوهرياً , الا ان الواقع و ما طرحناه بالمجمل قد جعل القارئ مدركاً السبب الذي تنحدر منه جميع الاسباب و هو ما اصطلح عليه بنظرية مركزية القضيب Phallocentrism . ان شمولية النظرية و المفهوم هذا يساعدنا في ادراك المنحى السابق (الهوية) و المنحى اللاحق (اللغة) كواصلة تعبيرية تاريخية كانت حاضرة جميع المشاهد الاضطهادية و الانجازية للمرأة على حد سواء , فمشكلة الاعضاء التناسلية كانت الدافع التبريري الاكمل و الاوضح لأي معضلة ذكورية مهما كانت الدلائل التاريخية لا تعينها . و مرة اخرى برزت هذه المسألة برمتها كمعطى افادي لدى التوجهات النسوية , و منها بوفوار , لتصديقها بالرغم من رفضها اغلب الاحيان:
“من المؤكد ان نقص القضيب لدى الفتاة يلعب في مصيرها دوراً هاماً حتى ولو لم ترغب جدياً في حيازته . اذ ان الامتياز الذي يتمتع به الذكر ينشأ من ملكيته لعضو تناسلي بار يمكن فحصه وكشف جميع اسراره . . . اما الفتاة الشابة فإنها لا تتمتع بهذا الامتياز , و لذلك فهي تمنح تعويضاً عن ذلك دمية تكون بالنسبة لها بدليل عن النقص الذي تشعر به اذا قورنت مع الفتى.” (الجنس الاخر , ص79)
ذلك الامر بعينه ما اولد تطرفاً غير طبيعياً في مسألة الجسد و العقل و الامور النفسية , اذ وصلت لنقطة الالتفات الى الغاء الجنسانية الغيرية (ذكر و انثى) و وقفت الكثير من النسويات بجانب الجنسانية السحاقية كرد فعل و علاج لفكرة مركزية القضيب , و اذ ان صرخات فيتيغ في هذا الشأن قد بانت في كتابها (العقل المستقيم و مقالات اخرى) حين قالت:” ان ظهور الذوات الفردية يتطلب اولاً تدمير مقولات الجنس … أن السحاقية هي المفهوم الوحيد الذي اعرفه عما يوجد ما وراء مقولات الجنس.” ذلك ما يعقد المسألة النسوية و خصوصاً حين اصبحت الذاتية الجندرية منكرة حتى في بيولوجيتها الملموسة , فاصبح انكار والغاء الجسدية المعيارية و متطلباتها الجنسانية حتمية فكرية لأجل تحقيق المطلب النسوي العالمي و هو انهاء الاضطهاد العام و الغاء الثانوية الجندرية .
تتعدى فكرة مركزية القضيب لتشمل ايضاً , في التحليل و التنظير النسوي , مواضيع اللغة في تركيبها وبنيتها, فبالرغم ان اللغة كانت في بداية مقالنا هي الدليل البديهي على وجودية الجندر النسوي , الا انه تجاوز في الوقت نفسه حدود الوجود كونه ارتبط بثانوية الجندر نفسه . ذلك ما دعا الكثير من اصحاب الحراك النسوي يضعون نظريات غريبة و تعليقات جديدة في امر اللغة , خصوصاً في الفترة الحديثة التي دخلنا فيها ببنية لغوية جديدة و هو النحو الانشائي او البنيوي , مثل فوكو و لوسي اريغاري . تشرح بتلر آرائهم اللغوية باختصار قائلة:
“وحسب رأي اريغاري , فان النحو الذي يدرس أسماء الجنس اللغوي , الذي يفترض رجالاً و نساء بالإضافة الى صفات الذكورة و الانوثة التي من شأن كل من الطرفين , انما هو مثال عن ثنائية هي بالفعل بمثابة قناع يحجب الخطاب ذا الصوت الواحد و المهيمن للعنصر الذكوري , والمركزية القضيبية , الذي يسكت النساء بوصفهن موقعاً لتعدد تخريبي . اما بالنسبة الى فوكو فان النحو الذي يدرس اسماء الجنس البيولوجي انما يفرض علاقة ثنائية مصطنعة بين الجنسين , كما يفرض اتساقاً داخلياً مصطنعاً داخل كل طرف من الثنائية.” (قلق الجندر , ص97)
و تتواصل المفاهيم المغلوطة عن اللغة لتكتمل مع فيتيغ ايضاً حين تعتبر هي كذلك مفردة “جنس” خرافة لغوية في كتابها (العقل المستقيم و مقالات اخرى) و تقول معلنة فيه “لا توجد كتابة انثوية.” و طول الحديث في ذلك لن يجرنّا الا لنفس النتيجة , وهو ان المفاهيم النسوية قد بنيت في مجملها على معطيات ذكورية سبقيه سعت للإطاحة بها بدل ان تفندها و تلغي اعترافها بها , و سنستدل بقولنا هذا الان في كل معطى نسوي تعاملنا معه الان .
ان مفهوم الهوية لا يمكن ان يكون مختزلاً و انشائياً ان ارتبط بشكل أساسي بالجندر , لان الذات الجوهرية تتطلب بشكل ضروري وجود ماهية تمثله , و لا ماهية تًحدد بدون هوية فعلية ترسم حدود وافاق الجندر سواء على الصعيد البيولوجي او على الصعيد العقلي . ان مشكلة بوفوار في فكرة الهوية و صيرورتها نابع من القاعدة المرسومة الشمولية لجعل الابداع و الملكة الخلاقة مرهونة بشكل يربط جندر الشخص , ذلك ما جعلها تندفع لتهميش الهوية بمثال فان غوغ:
“هل كان بإمكان (فان غوغ) ان يولد امرأة؟ وهل كان بإمكان هذه المرأة ان ترسل في بعثة الى بلاد (البوريناج) تشعر ببؤس وشقاء الانسان وكأنها جريمة ارتكبتها بنفسها؟ . . . لا اعتقد انه كان بوسعها ان تفعل ما فعله (فان غوغ).” (الجنس الاخر , ص324)
ان نتيجة ربط الشكل بجوهر الهوية هو ما سيخرج مثل هكذا مقارنات متناقضة , لان الابداع الفني و الاكتشافات العلمية غير مرهونة , بشكل شمولي كما ترسمه بوفوار , بجنس الشخص , بل ان الفردانية التي تصل بها قمة الابداع و الابتكار تتعدى حدود جندر الشخص عينه , و الا ما هي المواجهة الاقبح من ان يكون عيبك هو امرأة ليكون سبباً لرفض فنك وابداعاتك؟ و هل من الصحيح ان نخلق مقارنة بين فان غوغ و ماري كاسات كونهما ينتميان لنفس المدرسة و نقيم نفس المقاييس الجندرية الماهية . اني لاعتقد ان نكران الموهبة لهو اعظم من نكران القدرة بسبب الجندر , و لا ارى فان غوغ سيبقى حياً لو كان امرأة ذات ملكة فنية ان وافقنا على فكرة بوفوار نفسها . و ان كانت حدود بوفوار لا تتجاوز الملكة الفنية , فنحن سنتجاوز ذلك و ندخل جانب العلوم الطبيعية التي اثبتت زيف نظرية بوفوار بأمر الماهية , لان التاريخ لم يشهد ان اخذ شخص جائزتي نوبل غير ماري كوري , فهل نقول ان المرأة انتصرت على الرجل في ذلك الميدان ام نكتفي بالقول انها تملك جوهرياً الحس و القدرة على ان تنتج مثله ؟ هكذا نختصر ماهية الجندر في وجوديته و اطلاق عنانه للأبداع و الاكتشاف بغض النظر عن المقارنات البيولوجية و الوجودية و التاريخية , و عندها سنجد ما يبدعه رجل دون رجل اخر او امرأة و ما تبدعه امرأة دون امرأة اخرى او رجل هو حقيقة الوجود الانساني الغير مرتبط بشكل مباشر بالجندر مهما كانت قيوده.
و لأن المسألة البيولوجية تعتبر المعضلة الاسمى في الاضطهاد النسوي , لم يخلو التاريخ ممن ناقشوا و فندوا ما جاء في نظرية مركزية القضيب , وابرز اسم ظهر هو المحللة الالمانية كارين هورني , والتي من خلال كتابها (سيكولوجية المرأة) استطاعت ان تناقش هذه النظرية و تلغي جوانب عدة منها حتى اطلق عليها الفرويدية الحديثة . ان الغاء الجنسانية , بفرعيها البيولوجي و الذاتي , هي ما عززت الموقف الذكوري بشأن مركزية القضيب , اذ رغم المحاولات المستمرة لإيجاد منفذ قابل للتطبيق يهمش ويلغي هذه المركزية , الا ان التشكيل الهيكلي لأصل النظرية لا يفسح مجالاً لأي تغيير و الغاء عليه ما دامت الفكرة معترف بها. تعلّق بتلر على هذا الموضوع قائلةً:
“ان مماهاة النساء مع “الجنس”, بالنسبة الى بوفوار كما بالنسبة الى فيتيغ , هي خلط بين مقولة النساء والملامح المجنسة ظاهرياً لأجسادهن , وبالتالي هي رفص لان يتم منح الحرية والاستقلالية للنساء مثلما يتمتع بهما الرجال حسب زعمهم.” (الجنس الاخر , ص 98)
من خلال المعطيات السابقة نستطيع ان نجزم ان سقوط نظرية مركزية القضيب هي ما ستحل الاشكال الجندري الواقع في تمثيله و كينونته . ان الممارسة الجنسية بالشكل المنظور لا تحتم وجود عامل دون اخر , و ان التسميات التوصيفية ما هي الا ارهاصات بشرية صنعها لكي تبرر سلطته المجتمعية وتديمها , والا كيف تكون هناك مركزية فردية الجانب و لا تستطيع اكمال نفسها لتكمل الوظيفة الانجابية ؟ وكيف يعقل ان ننادي بمركزية انجابية ونحن بعصر قد اكتشف العوامل الوظيفية الانثوية في العملية التناسلية ؟ و حتى الممارسة الجنسية و مفهومها المغلوط بتصويرها السادي-مازوشية فهي بعيدة كل البعد عن التركيبة الحقيقية للممارسة بذاتها , و هذا بذاته مبني على ثقافة البشرية التراكمية وليس من الوعي الجمعي الحقيقي الذي يرتمي بافاقه لأبعد من ذلك بكثير .
ان الخلاص من وهم المركزية القضيبية Phallocentrism سيوقف من نفاذ التحليلات المغلوطة بالتركيبات اللغوية و البنية النحوية ايضاً , كون ان المنظور النسوي قد استنتج في نهاية الأمر ان كل شيء ند له وضده . و من الغريب ان نجد بتلر في تعليقها على رأي فيتيغ: “من الواضح ان فيتيغ لا تفهم علم النحو على أنه الصياغة أو أعادة الانتاج اللسانية لمنظومة قرابة منظمة بشكل أبوي.” تناصف فيها رأي اريغاري على غرار كتابها (الكلام ليس محايداً ابداً) حين تنادي به بلغة جديدة او منظومة تواصلية تلغي فيها المركزية القضيبية , اذ لو جمعنا كل هذه الآراء سنجدها تدور في حلقة واحدة وهي الاعتلاء الذكوري اللغوي كما يتصورون .
يجب ان يكون واضحاً ان المنظومة اللغوية , سواء كانت في قديم الزمان او حديثه , لم تسعى لأجل ترسيخ جندري بقدر ما سعت لأجل احيائه في كل شيء , فكما اشرنا سابقاً ان الصفات الجندرية لم يطلقها الانسان على البشر فقط بل نفذت الى الكائنات الحية و غير الحية , وان الزعم النسوي والجدليات الواقعة هي بعيدة كل البعد عن ادمغة اللسانين والنحويين , فعلم اللغة يسعى لتبسيط و تدعيم الأسس اللغوية والبنيوية وليس الى تفكيكها بناءً على اولوية معينة مهما كانت . ان القيم الاخلاقية المتناولة , سواء كانت موضوعاً فلسفياً او لغوياً , لا تأخذ طابعاَ جندرياً بالرغم من ان طبيعة النص تخال على انها ذكورية احياناً , الا ان هذه القيم نفسها تنقسم تلقائياً لو انتقلنا الى الجانب المجتمعي , فصفة المروءة مثلاً تغلب بدورها على ان تكون ذكورية اكثر مما تكون نسوية , و الشرف على العكس , لذا فان مفهوم الشرف لا يؤخذ بمنظور اخلاقي من الانسان بقدر ما يؤخذ بمنظور حتمي يحدد من جهة جندر معين احقية وجوده حياً او لا . واني لوددت الاستفاضة في هذا الجانب لولا رؤيتي بتفاهة فكرة النسويات في هذا الامر و حلولهم الخيالية .
نختم هذه المقالة بالقول بان هناك فرق شاسع بين الحراك النسوي و المطالبة بحقوق المرأة , واني لم اكن يوماً شخصاً نسوياً و لا اعتقد اني سأصبح يوماً ما كذلك , الا ان المرأة و حقوقها هي احد اولويات حياتي في السعي و المطالبة بها دوماً , و طول البحث قد بين الفرق بين المطالبة بحقوق المرأة و ان يكون الفرد نسوياً . لذا فان نقدنا و مسعانا هو لأجل تجديد الحراك النسوي كونه خرج عن اطاره الاصلي و العام في مسألة المرأة و حقوقها , و ذلك ما سيجدد الفكر و ينمي الوعي في الالفية الثالثة كما نسعى و نريد لأجل تجاوز اخطاء السابقي .
ان احد اكبر العراقيل التي تؤخر و تعطل السعي وراء تحرير المرأة هو ايمان الضحية نفسها ببطلان هذا المشروع و عدم واقعيته و حقيقته , اذ ان هذا الايمان الاعمى بمبادئ قديمة كأنها حقائق ازلية هي ما استدرج كل من شارك في تطوير الحركة النسوية للوقوع بنفس الاستنتاجات التاريخية . ان تحويل المرأة من الجانب الذاتي الى الجانب الموضوعي هو بذاته كافي لتبيان مسالة الاضطهاد و المظلومية حتى لو كان تحت مسمى الحركة النسوية . هذا ما يوضح فكرة التمعن في تصرفات و اسلوب النظرة و التصرفات الذكورية على انها لا تفسر على منهاج مجتمعي او تاريخي فقط بل حتى على مقياس بيولوجي ,لان الواقع يبين ان الكائنات الثدية تميل الى تعدد علاقاتها و زج الجينات المحمولة عند اكثر عدد من الاحواض الممكنة , ذلك ما بقي سائراً بشكل لاواعي عند الانسان فقد برمج هذه الخاصية العتيقة على الشكل الحديث ليبرر اندفاعاته و يوهم نفسه بانه انتصار نفسي و اجتماعي دال على رجولته وفحولته .
و على مستوى التطوير , فان التجديد الذي ننادي به و نسعى له ليس على مستوى المفاهيم و الواقع فقط بل حتى على مستوى المطالبات و اشكال التنفيذ , فنحن لا نسعى الى تحرر المرأة كامرأة بل الى تحررها كانسان , و لا ننادي بتساوي الحقوق و الواجبات مع الرجل بل ننادي يأخذ حقوقها و واجباتها التي تتناسب و طبيعة جندرها , و لا نريد ان تكون كمية الانجازات و الابتكارات و المساهمات لدى المرأة مكافئة للرجل بل نريد تحطيم هذا المقياس لان لا وجود لمثل هذه مقاييس عنصرية تهدف لان تكون شهادة لجنس دون اخر , فيعتمر الوجود الانساني بالوعي الذي له للرجل ما له للأنثى بدون الاحتياج لوجود مقارنة او تفكير بوجود حق عن جندر غير موجود عند اخر و العكس صحيح.
في النهاية نستطيع ان نجزم ونستنتج من خلال كل المستجدات العالمية الحديثة اليوم بان الحياة البربرية الاولى تمثل منبهاً تاريخياً على ان نعومة المرأة او بساطة جسمها التي تعتبر احد التبريرات المجتمعية لجعلها جنس اخر هي منكرة الصدق في بداية العصر البشري , لذلك فان الجندر النسوي لا يجب ان يقاس على مدى نعومة Cuteness المرأة بل على هويتها المجتمعية و البيولوجية , لان من المستحيل ان نجعل من العمل الشاق و التقسيمات الحياتية اليومية السخيفة هي مقياس لجندر معين سواء كان الجندر الذكوري او النسوي . و هذا ما ترسمه نافورة نبتون بالضبط , اذ تتمثل في شكلها الباعث للحياة كمنبه تاريخي يرجع له الانسان ليذكره بان الطبيعة دائماً ما توصف ب(الأم) , و ان هذه التحفة المتمثلة بامرأة تمسك ثدييها قاذفةً الماء من خلالها هي بذاتها دليل على القوة والحياة والطبيعة كرمز انثوي بامتياز . كذلك البيولوجيا تحدثنا دائماَ ان الانسان ,ككائن حي بشكل عام و ثدي بشكل خاص , قد كسر القاعدة الطبيعية في الادوار المعمولة له , فهو الكائن الثدي الوحيد الذي لا يرى قيمة الرجل و سائله المنوي تدنيه بل ترفعه , عكس الثديات التي يكون ذكورها لا قيمة لهم سوى نقل جيناتهم الوراثية و تجديد النسل , اذ تتحمل الانثى بعدها كل شيء من الحمل و الانجاب الى التربية و الاطعام . هذا بذاته يبين كمية التطور و الطفرة التي احدثها البشرية لتصل الى تأويل معطيات الطبيعة و تغييرها , ويرسم املاً , بعد فهمه طبعاً , ان هذه النظرة بإمكانها ان تنعكس بشكل سلبي او نصنع منها نصاً واعياً حيادياً يجعل من قيمة الجندرين اساساً للتكوين الفكري و الاجتماعي على حد سواء .