كتب : كمال عبد الرحمن ـ العراق
تحقق الثنائيات المتنافرة تخلخلا واضحا في بنية النص،و تعد بنية التضاد إحدى البنيات الأسلوبية التي تغني النص الشعري بالتوتر ، والعمق والإثارة ، وتقوم هذه البنية على الجدل ( الديالكتيك ) الذي يعني وجود حالة تناقض وصراع وتقابل بين أطراف الصورة الشعرية ، وغالبا ماتشتغل على شكل ثنائيات ضدية ، وهي العنصر الأكثر أهمية بين مكونات النص الشعري كما في هذا الديوان كالاتي:
وكنتَ عَرَّافُ الرِمَالِ بهَا
كتابُ الغَيْمِ
بَوصلَةُ الغَريْبِ
ظِلالُ مَا بَينَ السُطُوْرِ
تَصُوغُ فَوْضَاكَ الجَمِيلةَ مِنْ جَدِيدٍ
أن اشتغال الشاعر شفيق العبادي داخل اللغة بالغ الأهمية ، إذ (( استطاع أن يشق لنفسه لغة خاصة )) والمتتبع لشعره سيلاحظ العلاقات التي يقيمها بين ألفاظه ، وهي علاقات تحتاج إلى الوقوف عندها :
كُلَّما
كُلَّما
كُلَّما
كُنتَ تُبْري يدِي كي أخطَّ على الغَيمِ لي قدَما
ثمَّ تمْحو فمِي وتُراقِبُني
كيف أرسُم لي من جديدٍ فمَا
إن التضاد بصيغه المتعددة يمثل أسلوبا يكسر رتابة النص وجموده بإثارة حساسية القارئ المتلقي ومفاجأته ، بما هو غير متوقع من ألفاظ وعبارات وصور ومواقف ، تتضاد فيما بينها ، لتحقق في نهاية المطاف صدمة شعرية يتعالى بها النص على قارئه ، ويحلق في فضاء جمالي خاص ، ويحرضه على الحوار والتفاعل ، وإعادة إنتاج المعنى ، إذ (( ليس هناك نص أدبي لايخلق من حوله مجموعة من الفجوات والفراغات التي يجب على القارئ أن يملاها )) .
كما أن التضاد من أكثر الأساليب قدرة على إقامة علاقات جدلية بين النص من جهة والقارئ من جهة أخرى :
أول الأبجدية
مِن هاهُنا مرَّ عُـمرُكَ في التِيهِ
يَهْتفُ كُلُّ الصبَايَا نَضجْنَ
فكَيفَ نُخَاتِلُ شَوكَ النَواطِيرِ
كَيمَا تَعودَ إلى القَلبِ بُجْـَر الغَرَام
إن ظاهرة جمع المتنافرات نجدها عند شعراء الشعر الحديث وحتى القديم ، إلا أنها تتكرر عند الشاعر شفيق العبادي في قصيدته هذه وتكاد تكون سمة غالبة ، ووفق آليات مغايرة لآليات الشعراء الآخرين ، ومن بينها الدخول مع الطبيعة والأشياء في تبادل الممارسات (( فتؤنسن الأشياء ويشيّء الإنسان )) .
ان التضاد قادر على صنع خلخلة نصية تؤسس لفراغات الأسئلة في القصيدة:
هِيَ الآنَ تُحْصِي تَجَاعِيدَ أَحْلامِهَا
تَتَهَيَّأُ مُنْذُ الخَرِيْفِ الذِي فَاتَ لِلْعُرْسِ
تُعَانِقُ خَيْطاً مِنَ الوَهْمِ
تَفْرُشُ أَهْدَابَها لِلْعَصَافِيرِ
تَحْضُنُ ثَوبَ الزَفَافِ
تُسَرِّحُ فِي شُرْفَةِ الدَارِ مَخْضُوبَةً بِالأُنُوثَةِ خُصْلاتِهَا الذَهَبِيَّةَ
لكنَّ فَارِسَها لمْ يَجِئْ بعْدُ
قِيْلَ تَرجَّلَ عَن صَهْوَةِ البَحْرِ فَابْتَلَعَتْه القُلُوعُ
وقِيلَ اسْتَبدَّ بِه المَوْجُ فَاسْتسْلمَتْ لِلْشَوَاطِئِ رِجْلَاهُ
قِيلَ
وقِيلَ
وقِيلَ
ولكِنْ إلَى الآنَ تَشْربُ أَحْزَانَها لتَضُوعْ
هيَ الآنَ تَفْرُشُ أَعْوَامَها بِالدُمُوعْ
يطرح الشاعر العبادي العديد من الأسئلة في ديوانه ، وهي ليست أسئلة ليقال إن النص مملوء بالأسئلة ، ولكنها أسئلة مساءلة ، لاتقف عند حدود الطرح ، ولكنها تسائل وتراقب وتحاكم وهذا شأن النص المبدع .
وتكتنز قصائد الديوان بتشكيلات من الضديات التي تصنع الدراما في النص ، ففيها تتضاد الثنائيات لتلتقي وتثير شهوة القراءة ، وبهذا يتحقق التماس والتداخل والتنافر بين الشيء وضده ، فمن تداخل الليل والنهار يولد الفجر ، الذي هو ليس ليلا ولانهارا .
والتضاد هو شيء من المفارقة التي تبتكر بنياتها الاساسية من اصطدام المألوف بغير المألوف:
1-
وُلِدتُ عَلى بُعْدِ قَافِيةٍ مِنْ هُنَا
وَحَرْفًا بِطَعْمِ المَجَازِ اسْتَعَارَتْهُ أُمِّيَ مِنْ سُمْرَة القَمْحِ
مِنْ حُضْنِ سُنْبُلَةٍ شَكَّلتْهُ تَضَارِيسُ أَحْلَامِها
ذَاتَ صُبْحٍ بِلَونِ السَنَا
تَنَاهَبهُ العُمْرُ أُرْجُوحَةً كُلَّما مَالَت الرِيحُ مَالتْ لَه الرِيحُ
لكِنَّهُ مَا انْثَنَى
2-
أَخِيرًا سَأَخْلعُ صَمْتِي أَمَامَ كُلِّ مَنْ نَضَحَنِي بِأَسْئِلَتِه المُزْعِجَة
نَعَمْ كُنْتُ أُشَيِّدُ لِي عُشٍّا طِيلَة هَذِه السَنَواتِ النَافِقَةِ بَعِيدًا عَنْ أَشِعَّةِ الفُضُولِيِّينَ ، خَشْيَةَ أَنْ تَمْرُقَ أَجِنَّتُه ، أَو يَدْرُكهَا الطَلْقُ خَدَاجًا قَبْل أَوَانِ الوِلَادَة
فِي ذَاكِرَةٍ قَصِيَّةٍ بِخَيَالِ العَالَمِ العَابِرِ
فِي رَحِمٍ لَازَالَتْ غَائِمَة بِفَضَاءِ الزَمَنِ رَغْمَ تَخَطِّيهَا
حُبْلَى بِأَجِنَّةِ تَارِيخِه المُعَتَّق
3-
تِلْكَ التِي وُلِدْتُ مِنْ حِجَارَتِها المُخْتَمرَة فِي دَوارِقِ الزَمَنِ حتَّى فَاضَتْ جِرَارُهَا بِنَبيذِ الأَسَاطِيرِ ، وَحَكَايَا الجُنِّياتِ
شَاطَرْتُ قَوَابِلَ الرِيْحِ فِي وِلَادَاتِهَا المُتَعسِّرةِ كُلَّمَا اشْتَهَاهَا فَارِسٌ مَرَّ بِهَا صُدْفَةً وَهْيَ تُوْلِمُ ظَفَائِرَها لِقَراصِنةِ الوَقْتِ دَرْءاً لِفِتْنَةِ الشَوَاطِئِ
عَاقَرْتُ أَسْمَاءَ مَنْ حَفَرَتْهُمْ بِحبْرِهَا السِرِّي فَوقَ بَوَابَاتِها الأَرْبعِ شَوَاهِدَ لمَن قَارَفَ جَريرَةَ الاقْتِرابِ من ظِلَالِها المَاثِلَة كَعَرَّافَةٍ تَنْبشُ المَصَائرَ بِحرَابِ عَيْنَيْهَا السَاطِعَتَيْن نَوَافِذَ بَرْق ، غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِسيْرَةِ الأَسْلَاف الهَاجِعيْن سُطوراً فِي سِجِّل تَارِيخِهَا الأَحْمَر
اسْتَعَرْتُ فَمَهَا لِنُمَارِسَ مَعاً لُعْبَةَ الكَلَامِ خِلَاف ما لقَّنَنِي مُدَرِّسُ الصَفِّ .
عِنْدَما لَمَحَنِي صُدْفَةً أُجَدِّفُ لِلوُصُولِ بِطَوقِ مَجَازِي لِشَوَاطِئ المَعْنَى
رَوَّضْتُ لِسَانَها لِضَبْطِ مَخَارِجَ الحُرُوفِ بِشَكْلهَا السَلِيْم ، كَي تَحْتَرفَ مِهْنَةَ الإِلْقَاء كَذَلِكَ الفَتَى الغَامِضِ الذِي يُلْقِمُ أَشْعَارَه الجَمِيْلَةَ جُدْرَانَ الَّليْلِ فَتَكْبُرُ مَجْهُولَةَ السُلَالةِ .
مَنَحْتُهَا أَنَامُلَ عَرَّافَةٍ تَتَحسَّسُ مَكَامِنَ الحُروفِ الآيِلَةِ لِلشَبقِ ، كَي تَزرَعَ فِي شُقوقِها بَرَاعِمَ الرُؤْيَا .
صَاهَرْتُ قَنَادِيلَ وَحْشَتِهَا وَهْيَ تَفْتُلُ حِبَالَ العُتْمَةِ وتَحُكُّ فَوَانِيسَها النَائِمَةَ بَحْثاً عَنْ مَحْظِيَّةِ الزَمَنِ العَابِر .
وختاما في التضاد هو ملح النص، حيث تبكر القصيدة رؤاها الغامضة المتضاربة، لتؤدي في النهاية الى اكتناز النص بالأسئلة المتضاربة، والتي في الغالب لااجوبة لها، ولعل اعظم الاسئلة هي تلك الت لاجواب لها!.